الحريري أصاب الجميع… ماذا لو عاد؟ 

أنطوني جعجع

هي بضعة أيام فقط أثبت فيها سعد الحريري أنه الرقم الصعب في الشارع السني والركن السياسي والوطني “الممنوع” عن الغاء نفسه أولاً وإرثه العائلي ثانياً مهما أصر على ذلك، وأثبت أيضاً أن من كان يظن أن العيش من دونه أو على حسابه أمر ممكن، حصد من الأوهام والخيبات ما كاد يدمر الدولة والكيان معاً.

وسواء اختار سعد الحريري تعليق عمله السياسي بقرار ذاتي صرف أو بقرار خارجي ملتبس، فان الأمور لم تجرِ كما خطط لها الطرفان، وتحول الرجل الى “منقذ” لا بد منه، والى مرجعية لا بديل لها في الشارع السني اللبناني، والى حيثية سياسية ووطنية وطائفية في المجتمع الاقليمي والدولي، بعدما فشل “السنة الجدد” في ملء “الفراغ الحريري”، وبعدما اعتكفت الأكثرية السنية حتى حدود الشلل، وتكتل آخرون في بيئة تغييرية غير فاعلة، وآخرون في بيئة شيعية غير شعبية.

وليست الاندفاعة الشعبية السنية اللافتة نحو ساحة الشهداء وبيت الوسط الا دليلاً على “متنفس” يبحث عنه السنة الذين غيّبهم “حزب الله” ومحور الممانعة سواء جسدياً أو سياسياً، وحوّلهم الى مجرد يتامى أو مشرّدين تماماً كما فعل النظام السوري مع المسيحيين في غياب مرجعيات اغتال بعضها ووزع بعضها الآخر بين السجن والنفي.

وليست الاندفاعة السياسية الكثيفة نحو دارة الحريري تحت عنوان “الترحيب والتحية”، الا دليلاً آخر على أن من حاول استقطاب الشارع السني أو استرضاءه، أي “القوات اللبنانية” سواء عن حسن نية أو سوء تقدير، لم يحصد الا نأياً شبه كامل وقطيعة حريرية كاملة مع معراب سواء في مناسبات وطنية أو انتخابية أو الى موائد الافطار، وأن من حاول تغييب الرجل لا بل محو آثاره أي “التيار الوطني الحر” أدرك أن الحاجة اليه أصبحت أكثر الحاحاً من الرهان على سواه، وأن من حاول حصر القرار الاسلامي في يده أي حسن نصر الله، أدرك أن سنة لبنان يشكلون ركناً أساسياً من سنة العالمين العربي والاسلامي، وأن التعامل معهم بالقطعة لا يؤتي ثماراً، وأن الذهاب من دونهم الى نصرة غزة عسكرياً أو الى “أسلمة” لبنان لا يمكن أن يمر، بعدما نجح تيار “المستقبل” في تطويق أي نزعة أصولية في صفوف طائفته، وحال دون تمددها اليها من خارج الحدود رافعاً شعار “لبنان أولاً”.

وليس من قبيل المصادفة أن يتهالك “حزب الله” لجر السنة اللبنانيين الى حرب غزة، سعياً الى غطاء اسلامي جامع يخفي العامل الايراني وراء ما يدور في الجنوب.

وليس من قبيل المصادفة أيضاً أن تسعى “القوات اللبنانية” الى محو آثار ما تراكم من تباينات وصلت في نظر البعض الى حدود “الكيديات”، بعدما اكتشفت أنها تحولت بعد القطيعة مع الحريري الى مجرد تيار مسيحي محض لا يجد تياراً وازناً يسانده اسلامياً في مواجهة “حزب الله” في مكان، والمعركة الرئاسية في مكان آخر، والقضايا الكيانية الأخرى في كل مكان.

وليس من قبيل المصادفة أيضاً وأيضاً أن ينفتح “التيار الوطني الحر” على سعد الحريري الذي أثقل جسمه السياسي بأكثر من طعنة وخديعة أوصلته الى حدود اليأس والقرف، منطلقاً من دافعين أساسيين: الأول محاولة استفزاز “حزب الله” القلق من احتمال عودة الزخم السني – المسيحي الى ما يشبه “ثورة الأرز” في السياسة إن لم يكن في الساحات، والثاني محاولة تركيب تحالفات انتخابية عشية الانتخابات البلدية تكون بديلاً عن أصوات الشيعة في مناطق مختلفة ولا سيما في بيروت وبعبدا وعكار وأجزاء من البقاع، وربما استنساخ الصفقة التي قامت قبل سنوات على شعار “بعبدا في مقابل السراي”.

وثمة دافع ثالث يتمثل في محاولة التصالح مع الوجدان السني العام في معركة الرئاسة تماماً كما حدث في مرحلة التمهيد لانتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، وتماماً عندما حاول التراجع عن مواقف سابقة اعتبر فيها السنة مصدر الخطر على لبنان والعالم الاسلامي وليس الشيعة.

حيال هذا المشهد، يتبين في رأي المراقبين في الداخل والخارج أن السنة لم يكونوا وحدهم “يتامى” في غياب سعد الحريري بل أصاب ذلك أطرافاً آخرين آمنوا بأن أحداً لا يمكن أن يكون أكبر من بلده، قبل أن يدركوا أن أحداً يمكن أن يكون أكبر من بيئته، والمقصود هنا الفريق المسيحي وتحديداً جبران باسيل وسمير جعجع، وكذلك الفريق الشيعي وتحديداً “حزب الله” الذي وجد نفسه بعد اغتيال رفيق الحريري المنفلش في العالم السني المعتدل، عالقاً مع تياره المنفلش في كل زاوية سنية في زوايا لبنان.

وهنا لا بد من سؤال: أين يقف “حزب الله” مما أثارته العودة الحريرية الموقتة الى بيروت؟

ليس سراً أن “حزب الله”، ومن خلال مراقباته واستطلاعاته، كان يعرف أن عودة الحريري ستحرك العصبية السنية من جهة وربما تنعش تحالفات سابقة، فأطل نصر الله على الناس قبل يوم من ذكرى “الرابع عشر من شباط” وبعدها بيومين، متحاشياً الحديث عن الذكرى وصاحبها ووريثها، ومركزاً على دوره الاسلامي واللبناني في ما يعتبره أهم من ذلك في الوجدان العربي، أي “تحرير القدس” ونصرة القضية الفلسطينية وتدجين، إن لم يكن ازالة الكيان الاسرائيلي عن آخره.

وأكثر من ذلك، حاول نصر الله أن يقول ان الضرر الذي لحق بالسنة بعد اغتيال الحريري واعتكاف نجله، لا يقارن بما يصيب الشيعة في الجنوب من دمار وتهجير واغتيالات على يد اسرائيل، ولا يقارن بما قدمه من شهداء من أجل “لبنان السيد والمحصن” في مواجهة الصهاينة والتكفيريين.

سعد الحريري من جهته لم يتأخر في تلقف الرسائل سواء سلباً أو ايجاباً فأمسك أولاً بورقة سليمان فرنجية وأولم له علناً دون سواه، في إشارة مرمزة الى كل من جعجع وباسيل، مؤكداً لمن يهمه الأمر أن الشراكة لا يمكن أن تقوم من دون السنة أولاً ومن دونه ثانياً، ومصوباً أيضاً، ربما للمرة الأولى في شكل علني فج، نحو “حزب الله” وقال إنه “يدفع الآن وسيدفع أيضاً ثمن اغتيال والده”، وملمحاً الى أنه لم يعمد الى الاقتصاص منه “منعاً لوقوع حرب أهلية”.

هذه المواقف لن تجد في الضاحية الجنوبية من يبتلعها سواء في الخفاء أو في العلن، في وقت يرى مراقبون أن الحركة الشعبية والسياسية والديبلوماسية التي أثارها الحريري في مدى بضعة أيام، رسمت خريطة طريق واضحة لما سيكون عليه تيار “المستقبل” ورئيسه على مستوى الخيارات الوطنية الجوهرية والاستراتيجيات التي يجب أن يتبعها لبنان حيال الصراعات والتسويات القائمة والمحتملة في المنطقة، اضافة الى موقع البلاد في البوتقة العربية الخالصة بعيداً من ايران ومحورها.

وتساءل هؤلاء: هذا ما فعله سعد في عودة خاطفة ومحددة، ماذا يمكن أن يفعل لو عاد فعلاً؟

ويختم المراقبون أن “حزب الله” ليس في أفضل أحواله، لافتين الى أنه يجد نفسه في حرب استنزافية لا يعرف كيف يخرج منها منتصراً ولا يقبل أن يخرج منها مهزوماً، اضافة الى أنه راهن على دولة ايرانية محاصرة ومنبوذة وعرضة لكل أنواع الحصارات والعقوبات والضربات، وخارج بيئة عربية بدأت تكوّن لنفسها كياناً مستقلاً عن أي قضية ترعاها ايران وتستعيد دورها ونفوذها لدى فلسطينيي الاعتدال، وتحرّك شعار السلام مع اسرائيل في مقابل دولة فلسطينية لا مكان للأصولية فيها.

وأكثر من ذلك، بات “حزب الله” ومعه ايران على اقتناع بأن اسرائيل ككيان ودولة لن توقف الحرب قبل تأمين أمنها النهائي في غزة بغض النظر عمن يكون في الحكم سواء كان من اليمين أو من أكثر الحكام اعتدالاً وعقلانية، وهو ما يضعهما مجدداً في خانة: “لو كنا نعلم “.

انها العودة القصيرة في توقيتها والطويلة في مفاعيلها التي يعرف محور الممانعة أنها ستكون في المنطقة جزءاً من محور الاعتدال العربي والاسلامي، وفي لبنان ما يمكن أن يشبه “تكتل ١٤ آذار”، وهما أكبر مما يمكن أن يتحمله سياسياً وأخطر مما يمكن أن يسقطه عسكرياً.

شارك المقال