4 آب 2021: انتفاضة شعب من أجل الحقيقة والعدالة

هيام طوق
هيام طوق

الرابع من آب 2021 ليس كالرابع من آب 2020، وعقارب الساعة التي توقفت عند السادسة وبضع دقائق من مساء تلك الليلة المشؤومة، عاد النبض إليها، معلنة انتصار الحياة على موت عاصمة ببشرها وحجرها.

في الرابع من آب الماضي، هز بيروت زلزال نيترات، قوته صفر درجات على مقياس اهتمام السلطة، فاندثر غباره على مدى الوطن، وأصاب كل لبناني في “انفجار” داخلي، ووصلت رائحة الموت والدماء إلى سابع سماء، وزنرت بيروت غيمة حزن سوداء أمطرت دموعاً في عيون أمهات ثكالى على شباب في زهوة العمر، وانقلبت حياة أهل المدينة رأساً على عقب، واستسلموا لليأس والإحباط، وانتصر شر كل من يريد الموت لمدينة الحياة، فتوقف الزمن وكسفت الشمس من السماء الشاهدة على إجرام مسؤولين لم يرفّ جفن ضمائرهم، لا بصراخ طفل يبحث عن أهله بين الركام ولا على رجال إطفاء أبطال دفنت أشلاءهم على دفعات، ولا على ضحايا أبرياء صعقهم عصف انفجار داخل منازلهم. إنها هيروشيما بكل ما للكلمة من معنى.

في الرابع من آب 2021، نفضت بيروت الغبار عنها كطائر الفينيق المنبعث من تحت الرماد، وانجلت الغيوم السود من سمائها لأن مطر دموع الأمهات سيغرق المسؤولين بأوجاع الضمير، وتساعد الشبان والشابات في لملمة الجراح من الشوارع والأحياء، وعادت الحياة لتنبض في ليلها ونهارها، وتوحد اللبنانيون أمام الفاجعة، وحولوا أصوات الانفجارات التي شكلت “تروما” لدى الكثيرين إلى ترانيم وموسيقى صدحت من المرفأ باتجاه بيروت، وفاحت رائحة البخور على وقع أجراس الكنائس وأذان الجوامع، وصرخ الناس بأعلى أصواتهم: لتكن انتفاضة لأرواح الشهداء الذين بدمائهم سيزهر ربيع ست الدنيا، وبتكاتف المنتفضين على رافعي شعار الموت، ستنجلي الحقيقة، وسترفرف رايات العدالة فوق قبور الضحايا الذين من عليائهم سينشلون وطنهم الذي أحبوه حتى الشهادة من جهنم مسؤوليه، ويعود لبنان كما يريده الشعب “قطعة سما عالارض” وهم متسلحون بإيمان لا يتزعزع بأنه إذا كان للباطل جولة فللحق جولات وجولات.

ما جرى أمس في بيروت ومختلف المناطق ليس إحياء لذكرى 4 آب، لأن ذلك التاريخ لم ولن ينساه اللبنانيون طوال حياتهم، وسيبقى محفوراً في الذاكرة كأسوأ كابوس عرفه البلد. ما حصل كان بمثابة انتفاضة شعب على سلطة نكلت فيه وأذلته وجوعته، وأرادها مناسبة لإسماع صوته إلى العالم أجمع، بعد أن تأكد أن المسؤولين يديرون له الآذان الصماء، “نريد الحقيقة والعدالة وإلا على الوطن السلام. نريد إنقاذنا من جهنم المتحكمين برقاب العباد حتى النفس الأخير. هم فاسدون وكاذبون ويتلطون خلف عباءة الحصانات للهروب من مسؤولياتهم، وعدونا بالحقيقة خلال خمسة أيام، ولا بصيص تقدم على مسار العدالة”.

هناك عند مرفأ بيروت حيث كل الحكاية، وحيث الحزن والدمار والرماد والحاويات المكسرة، كلها تخبر عن هول ما جرى في ذلك اليوم المشؤوم الذي أراده الأهالي أن يتحول إلى يوم رجاء وصلاة وإيمان بقيامة لبنان، فرأس البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي القداس الإلهي عن أرواح الشهداء بالتزامن مع لحظة الانفجار، والتف من حوله أهالي الشهداء الضحايا والمتضررين، مسلمين ومسيحيين حيث ألقى الراعي عظة أكد فيها أن “مطلبنا معرفة ما جرى في مرفأ بيروت. العدالة ليست مطلب العائلات المنكوبة بل مطلب الشعب اللبناني بأكمله”، داعياً القضاء إلى “الشدة والحزم ومعاقبة المجرم وتبرئة البريء” معتبراً أن “واجب كل مدعو أن يمثل للإدلاء بشهادته أمام القضاء. فكل الحصانات تسقط أمام دماء الشهداء”.

ولأن المناسبة ليست حدثاً عابراً، وتخص كل اللبنانيين، فجاءت النشاطات والتحركات والمسيرات في بيروت ومختلف المناطق على قدر الحدث الجلل، وعلى قدر شهادة وتضحية أكثر من مئتي شهيد حيث إن الحداد الوطني وتعطيل المؤسسات والإدارات العامة وأغلب المؤسسات الخاصة، بدد زحمة السير التي تشهدها العاصمة وضواحيها التي خلت صباحاً إلا من صور كبيرة لشهداء المرفأ كتب عليها “العدالة آتية” وبعض السيارات التي حملت مكبرات الصوت وصدحت منها الأغاني الثورية، ليتغير المشهد ابتداء من الظهر حيث غصت المناطق القريبة من المرفأ بالنشاطات، وانطلقت المسيرات، ونظمت الوقفات التضامنية من مختلف الجهات والهيئات والقطاعات، وتم تدشين مجسمات ولوحات بأسماء الشهداء، ونكست الأعلام في القصر الجمهوري. وأبرز الوقفات التضامنية جاءت من أمام قصور العدل تأييداً للعدالة، إذ أكد نادي قضاة لبنان أن “المساءلة حق والحصانة ليست مطية للهروب من سلطان العدالة”. أما أصحاب القمصان البيض الذين كانوا جنوداً أبطالاً في أرض معركة حقيقية بعد أن تمكنوا من بلسمة جروح آلاف المصابين في لحظة مشؤومة، فأضاؤوا الشموع أمام المستشفيات في بيروت وأكملوا مسيرتهم نحو تمثال المغترب قرب المرفأ.

وقفات تضامنية في المناطق والمدن والبلدات من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، كلها طالبت بالحقيقة والعدالة وبرفع الحصانات، كما نظمت عشرات المسيرات التي انطلقت من أماكن متعددة، متجهة نحو بقعة جغرافية محيطة بالمرفأ، منها وصل إلى تمثال المغترب حيث تم تدشين تمثال مطرقة العدالة، ومنها إلى المجلس النيابي علّ المشاركون يستطيعون بحناجرهم خرق حيطان المجلس للمطالبة بعدم الاختباء خلف حصانات سقطت منذ لحظة الانفجار”. وبعض المسيرات توجهت إلى ساحة الشهداء، تلك الساحة التي شهدت على أكبر انتفاضة شعبية في 17 تشرين علهم يعيدون عقارب الساعة إلى تلك اللحظة التي توحد فيها اللبنانيون حول إسقاط المنظومة “كلن يعني كلن”.

وفي وقت يتهرب المسؤولون اللبنانيون من مسؤولياتهم، ويحاولون طمس الحقيقة في جريمة هزت ضمائر قادة العالم، أصر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على عقد مؤتمر دولي لدعم لبنان في تاريخ 4 آب بعد أن كان مقرراً أن يعقد قبل ذلك التاريخ، والذي أكد أن “فرنسا ستقدم في الأشهر الـ 12 المقبلة التزامات جديدة لدعم مباشر للشعب اللبناني”. كما أن المغتربين اللبنانيين الذين لم يفصلهم بعد المسافات عن أوجاع أهلهم في الوطن، فكانوا حريصين على إحياء الذكرى في أصقاع الأرض، فأقاموا الوقفات التضامنية في عواصم ومدن العالم، وأضاؤوا الشموع على أرواح شهداء المرفأ، ونكسوا الأعلام السوداء في السفارات والقنصليات اللبنانية حيث هم موجودون.

وخصصت المحطات الإعلامية اللبنانية، يوما طويلاً من النقل المباشر من داخل المرفأ ومنطقتي الجميزة ومار مخايل ومقابلات مع مصابين وناجين وأهالي الضحايا، فضلاً عن تقارير وثائقية تم إعدادها للمناسبة. وكان لافتاً الحضور الإعلامي العالمي الذي رافق أغلب النشاطات والتحركات التي أقيمت في بيروت وضواحيها.

إقرأ أيضاً: خريس لـ “لبنان الكبير”: لا لتضييع البوصلة في انفجار المرفأ

وما كان لافتاً أيضاً الانتشار الكثيف للجيش اللبناني والقوى الأمنية الذين ينفذون الأوامر بحماية المتظاهرين من جهة وعدم السماح بتكسير وتخريب الممتلكات العامة والخاصة من جهة أخرى، بحسب مصدر أمني لـ”لبنان الكبير” أكد “أننا لن نتهاون مع المخلين بالأمن، لكن لن نعتمد أسلوب القمع”. مع العلم أن الأهالي كانوا قد أعلنوا أنهم غير مسؤولين عن أي خلل أمني أو دخول طابور خامس قد يحرف التحرك عن مساره الصحيح وسط معلومات تم تداولها طوال يوم أمس تفيد أن هناك أشخاصاً ينقلون أسلحة في سياراتهم نحو وسط بيروت. واتخذت تدابير أمنية مشددة في محيط البرلمان ومنازل الوزراء والنواب خصوصاً اولئك الذين تم استدعاؤهم أمام القضاء للاستماع إلى شهاداتهم.

في المحصلة، فإن الذكرى التي أرادها أهالي الشهداء يوم صلاة على أرواح ضحاياهم، والذين أعلنوا أكثر من مرة أن تحركاتهم السلمية ولت إلى غير رجعة لكن بعد الرابع من آب، فإن أعداداً كبيرة من الوفود الذين ينتمون إلى أحزاب وأطراف سياسية مختلفة، توجهوا إلى وسط العاصمة لإيصال رسائل عدة منها سياسية وأخرى معيشية، ما هدد بانزلاق الوضع الأمني في أي لحظة. وما كان يشاع طوال اليوم عن أن التحركات السلمية ستتحول إلى أعمال شغب بعد حلول الظلام، وهذا ما حصل حيث انسحب المشاركون السلميون من ساحة الشهداء، ليستمر الشغب والكر والفر بين الشبان والقوى الأمنية في محيط المجلس النيابي.

شارك المقال