الحقيقة الثابتة: احتلالٌ إسرائيلي يسوّغ احتلالاً إيرانياً

عبدالوهاب بدرخان

كلّما نطق رئيس الحكومة ووزير الخارجية في ما يخصّ المواجهة في جنوب لبنان- شمال إسرائيل فإنهما يعطيان للداخل والخارج مزيداً من التأكيد بأن لديهما مع جميع الوزراء، الحاضرين اجتماعات الحكومة والغائبين عنها، مرجعية واحدة هي “حزب إيران/ حزب الله”. ثمة اختلاف ضئيل جداً في المصطلحات بين نجيب ميقاتي وعبدالله بو حبيب، لكنها تذهب كلّها الى المصبّ نفسه. حرب “مشاغلة” العدو الاسرائيلي لـ “مساندة غزّة” شكّلت إضافة نوعية لنهج الترهيب الداخلي الذي يتّبعه “الحزب”، إذ لم تعزّز ورقة “التخوين” التي رفعها ضد معارضي الحرب فحسب، بل اتخذها وسيلة لضمان عدم حصول أي تغيير في تحكّمه المستمرّ بالاستحقاقات الدستورية الداخلية. وبموازاة ذلك استخدمت إيران الحرب لاستدراج اعترافات خارجية شبه رسمية بنفوذها في المنطقة، وأتاحت لـ “حزبها” أن ينجز تهميشه الكامل للدولة في لبنان.

طرحت الولايات المتحدة وفرنسا عروضاً شتّى لوقف المواجهة في الجنوب اللبناني، وكان لديهما هدف رئيسي مباشر ومكشوف هو “حماية” الحرب الإسرائيلية على غزّة، وقد تمكّنت واشنطن من تحقيقه بالتعامل مع طهران التي تلعب حيناً ورقة الابتزاز وحيناً آخر ورقة عدم الرغبة في توسيع الحرب، بحسب خطورة الموقف. فالابتزاز مستمرّ في البحر الأحمر عبر الميليشيا الحوثية، لأن إيران واثقة بأن أي تحالف دولي لن يقرّر غزو اليمن لضرب الحوثيين والتخلّص من هجماتهم. أمّا عدم توسيع الحرب فتحرص إيران عليه حرصها على ميليشيا “حزب الله”، رأس حربتها الإقليمية، الى حدّ تحمل الاستفزازات الإسرائيلية والضربات خارج “قواعد الاشتباك” والخسائر البشرية لـ “الحزب”، في الجنوب وكذلك في سوريا. في المقابل اضطرّت إيران الى منع ميليشياتها من مهاجمة القواعد الأميركية في العراق وسوريا، بعدما استشعرت تهديداً مباشراً لأراضيها مع توالي الضربات الأميركية الموجعة داخل العراق.

صحيح أن همّ الوسطاء الأميركيين والفرنسيين كان عدم نشوب حرب أخرى واسعة ضد إسرائيل في المنطقة، إلا أنهم أبدوا أيضاً اهتماماً بألّا يتعرّض لبنان لدمار كبير لئلا تتفاقم أزماته. لكن إيران و”حزبها” لم يتوقّفا مليّاً عند ذلك الدمار المفترض، إذ كانت أولويتهما إظهار الدعم لحركتَيْ “حماس” و”الجهاد” تجسيداً لـ”وحدة الساحات”. أصبح واضحاً أن هذا الدعم لم يأتِ بأي فائدة لهاتين الحركتين في الحرب التي لمّا تنتهِ بعد في غزة، وربما تؤدّي فصولها الأخيرة الى تغيير مصيري في دوريهما وطبيعتيهما. وعدا أن قدراتهما العسكرية أُضعفت فإن كل الخطط غير الاسرائيلية المرسومة لـ “اليوم التالي”، بما فيها المساعدات وإعادة الاعمار والجانب السياسي المطروح تحت عنوان “حلّ الدولتين”، مشروطة جميعاً بتحييدهما ونزع سلاحهما، وإلا فإنها ستترك القطاع على حاله كمنطقة طاردة للسكان.

أما “الساحات” فقد انكشفت حقيقتها، وبات أتباع إيران مدركين أنهم مجرد بيادق تحركهم وفقاً لمصالحها ضد مصالح الدول التي يعيشون فيها عابثين بأمنها واستقرارها ومستقبلها. ولا يعني ذلك أن لدى هؤلاء الأتباع استياءً من وضعية التبعية التي هم فيها، بل يرونها ولاءً عقائدياً يعتزّون به وميزة استراتيجية لم يحلموا بها سابقاً ومصدر قوّة لحكمهم وللاستقواء على مواطنيهم، ثم أنهم، وقد جرّفوا من رؤوسهم كل مبادئ التعايش الوطني والسيادة والاستقلال، ليست لديهم خيارات أخرى ولا يفكّرون في أي صيغ لـ “توطين” خياراتهم الراهنة. وتبعاً لذلك فانهم لا يرون ولا يريدون أن يروا أن إيران نفسها انكشفت، كذلك مشروعها، إذ ظهرت حدود القوة التي تستعرضها فقط لحماية أراضيها ونظامها، فهي من جهة لا تستطيع إشعال “الحرب الكبرى” التي وعدت بها ولا تزال هدفها (ضد إسرائيل والوجود الأميركي في المنطقة) ولا الذهاب الى حدّ المغامرة بأحد وكلائها لأن حرب غزّة أثبتت أن الكلمة الأخيرة لموازين القوى العسكرية، ولا هي قادرة من جهة أخرى على إقامة علاقات إقليمية طبيعية مع محيطها لأن هذا الخيار يفترض حكماً أن تعيد النظر جذرياً في الاعتماد على استراتيجية “الحرب الدائمة المفتوحة” وعسكرة المجتمعات وتفريخ الميليشيات.

لا إيران ولا “حزبها” اللبناني يريدان حرباً واسعة، واضطرّا الى تأجيل “الحرب الكبرى” الموعودة، ربما لأن مفاجأة “طوفان الأقصى” كشفتها وأجهضتها. ولا واشنطن تريد الحرب بل تمنع إسرائيل من تنفيذ تهديداتها، طالما أنها يمكن أن تستعيض عنها برشاوى متقطعة لطهران. لكن كل ذلك لا يشكّل ضماناً لعدم حصول الحرب، فالخطر يبقى قائماً ويتوقّف على “سوء تقدير” من أي جهة، كما قيل مراراً، ولا يستبعده سوى “تسوية كبرى” تستند الى القرار 1701 وتذهب أبعد منه بتبديد خطر الصواريخ الإيرانية، لكن إيران و”حزبها” يستبعدان “طمأنة إسرائيل” كهدف لأي مفاوضات. في الأسبوعين الأخيرين بلغ التصعيد درجة جعلت “اليونيفيل” تقدّر أن الوضع مقلق جداً، ما يقلق أيضاً الدول التي انتدبت قوات الى جنوب لبنان. مع ذلك، لا يزال الهدف بلسان قادة إسرائيل: اتفاق ديبلوماسي يحدّد إجراءات ملزمة لـ “حزب إيران”، أو لجوء الى القوّة لفرض تلك الإجراءات. “الحزب” رفض أي وقف متبادل لإطلاق النار بمعزلٍ عما يحدث في غزّة، كما تقترح “ورقة فرنسية” أعدّت بموافقة أميركية، كما رفض أي تفاوض قبل اعلان هدنة ولو موقّتة في غزّة. وإذا عقدت مفاوضات لاحقاً فإنها ستكون شكلياً مع الحكومة وعملياً مع “الحزب” الذي يضمن مسبقاً أن أي تطبيق للقرار 1701 لن يكون كاملاً (بسبب الإشكال السوري المتعلّق بمزارع شبعا وتلال كفرشوبا المحتلتين)، ما يعني احتفاظه بذريعة سلاحه غير الشرعي، واشتراطه تنازلات “خارجية” تدعم خياراته الداخلية وإدامة هيمنته الداخلية. هكذا يبقى الوضع على حاله، فالاحتلال الإسرائيلي والمماحكة الأسدية يمنعان استعادة الأراضي اللبنانية المحتلة ويسوّغان استمرار الاحتلال الإيراني لكل لبنان.

شارك المقال