جايين نعلق المشانق

تالا الحريري

“بدنا عدالة”. هذه كانت صرخة المواطنين الذين أحيوا ذكرى تفجير ٤ آب.

بدأت التجمعات في عدّة مناطق منها تمثال المغترب مقابل المرفأ توجهاً إلى ساحة الشهداء. ولم يخلُ المشهد من أهالي الضحايا والمصابين وفوج الإطفاء. جلس كل منهم في زاوية، يتأملون المشهد مرة أخرى والدموع تخونهم، لكن كان تجمع آلاف الناس بريق أملٍ لهم، لعلّ العدالة تتحقق.

على حافة أحد الجدران المقابلة للمرفأ، يجلس رجل شارد الذهن. إنه أحمد يونس أحد المصابين بالتفجير. هو صياد سمك، يسترزق من مهنته. في ٤ آب ٢٠٢٠، كان متوجهاً نحو الدورة إلى شركة الكهرباء وعصف الانفجار بالعاصمة “كان معي شاب ما عرفت وين صار”. روى ما حدث معه بعد االتفجير لـ”لبنان الكبير”: “قدمي كل يوم كانت عم تورم، حالتي كانت كثير صعبة، صار عندي سكري والتهابات، ظليت شهر و٤ أيام حتى أجريت العملية”. لم يعد لدى أحمد القدرة على العمل “أنا انعطبت” وما زال التأثير النفسي كبيراً.

كان التجمّع يزداد شيئاً فشيئاً والأهالي كانوا أول الموجودين. فتاة جالسة تنظر بحسرة وتبكي. لقد خسرت أخاها جو وخطيبها رالف ملاحي في هذا النهار المشؤوم. قالت لـ”لبنان الكبير”: “وصلني خبر وفاة خطيبي بصورة، كانت الصورة عبارة عن أشلاء، وأخي توفي أيضاً جرّاء الانفجار، والآن كل يوم بالنسبة لي ٤ آب”. وككل المواطنين، تلوم الفتاة الدولة غير الموجودة أساساً، فلو كانت دولة فعلاً، لما سمحت بحدوث ذلك.

عند تمثال المغترب، كان هناك تجمّع خفيف في تمام الساعة الواحدة ظهراً، منهم من يحمل أوراقاً ولافتات، ومنهم من يهتف “ثورة من أجل شهداء المرفأ”. ثائرة من ثوار ١٧ تشرين تحمل مشنقة في يدها تضامناً مع أهالي الضحايا: “نحن جايين نعلق المشانق، يجب أن يتحاسبوا جميعاً، وطالما نحن يداً بيد سنصل إلى ما نريد”. كانت تتحدث بحرقة فانهمرت دموعها ولم تتمالك لسانها وبدأت تشتم، لتبرر موقفها بعد ذلك: “أنا كنت عايشة كرمال أمي، كل الثوار يعلمون أنني كنت سأبيع كليتي حتى أُدخل أمي إلى المستشفى وأعالجها، الآن لم يعد يفرق معي شيء، أنا هنا من أجل الضحايا”.

دخل على الحديث رجل يحمل ورقةً رسم عليها الرقم ثلاثة وعدة خطوط في داخلها وحولها، وعندما سألناه عن رمزية هذه الرسمة قال: “الرقم 3 يعني نحن شطّبنا عليهم، وحولهم الشعب اللبناني الذي رمى هؤلاء الثلاثة في القمامة… والثلاثة هم رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة، الذي ما زال غير معروف حتى الآن بسبب التكليف. نحن نريد الحقيقة حتى يرتاح أهالي الشهداء، فنحن لم نتأثر بالشظايا لكن التأثر كان في الصميم”.

إقرأ أيضاً: إنفجار المرفأ… البحث عن عدالة دولية

هذا الرجل اسمه نبيل حضر من الجبل ليحيي هذه الذكرى وسط الناس ومع أهالي الشهداء، وهذا ما قام به الجميع. فمنهم من أتى من الجنوب والبقاع والشمال من كل الطوائف. وقد تعرّض نبيل بعد دقائق إلى الضرب من قبل القوات، بعدما دار حديث مستفز بينهما، إذ نزل أفراد من القوات إلى طريق المرفأ وهم يحملون أعلام حزبهم، وعندما توجّه نبيل اليهم بالكلام، انهالوا عليه بالضرب وغرق في دمائه. لم يُقمع وأطلق صرخته: “هويتي لبنانية وهي تاج راسي أنا ضد نزول جميع الاحزاب اليوم، لماذا جاؤوا؟ هل لكي يستفزوا أهالي الضحايا والناس؟”.

نماذج كثيرة مرّت علينا في هذا اليوم، لكن كان التضامن سيّد الموقف. وعندما أقفل الجيش الطريق المؤدي إلى بوابة المرفأ، حصل تضارب بينه وبين المواطنين وعناصر فوج الإطفاء، ولكن سرعان ما سمح لهم الجيش بالعبور ولم يتصدَّ لهم. كانت الأعداد كبيرة جدّاً وقد فاقت التوقعات، وقد مشوا مسيرةً من تمثال المغترب وصولاً إلى باب مرفأ بيروت لتخليد الذكرى.

شارك المقال