البقاء لغزّة

الراجح
الراجح

كتب ماجد كيالي: “قبل ثلاثة أعوام، نشرت مقالاً عنوانه: هذه ليست لوحة فنية… تحدثت فيه عن صورة مزدوجة لغزّة. الأولى، تمثلت بحشد كبير من الشباب يتدافعون أمام كوة مكتب لتقديم طلبات العمل في إسرائيل (قبل الحرب كان ثمة 200 ألف عامل فلسطيني في إسرائيل، منهم 20 ألفاً من غزة)، وكان مرجحاً أن يزداد العدد، بل وأن يتضاعف، بسبب ضآلة فرص العمل، وارتفاع نسبة البطالة، وتالياً الفقر، بين الشباب في الأراضي المحتلة، خصوصاً في قطاع غزة، قليل الموارد والمحاصر منذ 17 عاماً”.

أعتذر من الكاتب لإضافة بعض التفاصيل والشروح؛ بالطبع لا يهم هؤلاء أنهم يعملون في إسرائيل، “العدو الذي استولى على أراضيهم ويحاصرهم ويعتدي عليهم، هم يدركون فقط أن العمل لتحصيل قوت يومهم هو شرط حياتي لبقائهم في أرضهم، وأنه أحد أهم أشكال مقاومة إسرائيل، التي تريد سلبهم أرضهم وإخراجهم منها”.

ويفيد التنويه هنا بأن المكتب المذكور كان يعمل بمعرفة سلطة “حماس”، وأن تلك الحركة تحصل على موارد مالية مباشرة من قطر، بمعرفة إسرائيل وبتنسيق معها أيضاً.

أما الصورة الثانية، فتتمثل بـ”مسيرات الاستعراض العسكري، وصور الصواريخ المنطلقة من غزة، وإطلالات أبو عبيدة إبان كل حرب مدمّرة تشنّها إسرائيل على غزة، متوعداً إياها بزلزلة الأرض من تحت أقدامها، وواعداً الفلسطينيين بفرض شروط المقاومة (ميناء في غزة وفتح المعابر ورفع الحصار وإعادة الاعمار)، من دون أن يحصل أي شيء من هذا أو ذاك، لا في الحرب الأولى (2008) ولا في الرابعة (أيار/ مايو 2021)”.

هل لاحظتم إشكالية التناقض بين الصورتين، بين اعتماد فلسطينيّي غزة في كل شيء تقريباً على إسرائيل (ماء وكهرباء ووقود ومواد تموينية وطبية كما تأمين فرص العمل) والدخول في الوقت نفسه في حرب صاروخيّة معها؟

هل لاحظتم أنه، وطوال خمسة أشهر تقريباً من حرب الابادة الاسرائيلية في غزة، كيف برز ذلك التناقض بشكل حاد ومأساوي بين ما تفعله إسرائيل في غزة، في البشر والشجر والحجر، مع قطع المياه والكهرباء والوقود والدواء، وتجريف الطرق، وتدمير البيوت والعمران، وتشريد مليوني فلسطيني، عدا عن الضحايا الذين يزيد عددهم عن المئة ألف قتيل وجريح، من دون أن ننسى الـ 8000 معتقل جديد من الضفة الغربية لوحدها، وقد ننسى المعتقلين الجدد لكننا لن ننسى المفقودين تحت الركام وبين فيديوهات وصور عمليات المقاومة ضد الجيش الاسرائيلي في قطاع غزة؟

طوال الأشهر الخمسة تقريباً من حرب الابادة الاسرائيلية على قطاع غزة، كان صوت المقاومة مسموعاً وفيديوهات “كتائب القسام” رائجة في نشرات ومحطات فضائية واسعة الانتشار، في حين أن صوت الفلسطيني البسيط الذي خسر كل شيء لا أحد يسمعه لولا رسائل التواصل الاجتماعي، على الرغم من أنه هو الذي دفع الثمن الأكبر لحرب الابادة السرائيلية التي تدور الآن وبعد العملية الهجومية الكبيرة لـ “حماس”.

ويقول الكاتب: “ومن خلال متابعتي المباشرة مع أصدقاء في غزة، وعبر وسائط التواصل الاجتماعي، بدا لي أن ثمة وجهة نظر تستحق الحضور، لا سيما مع مقولات لبعض مسؤولي حماس، ضارة وخاطئة وتقوّض صدقية المقاومة ذاتها، كالقول إن المقاومة بخير، وإن إسرائيل لم تحقق أهدافها وستضرب وتدمّر لمدة أسبوع أو أسبوعين، وبعدها لن تستطيع القضاء على المقاومة، وان الفلسطينيين ليس لديهم ما يخسرونه، كأن حرب الابادة التي تشنّها إسرائيل لا تؤثر على حماس… وهذا يعني أن استهداف الشعب الفلسطيني لأمر عاديّ وبسيط، أو كأنه يحدث في بلد آخر، ولشعب آخر، وكأن خسارة أب أو ابن أو أم أو إبنة، أو خسارة شخص يده أو رجله أو بيته أو أملاكه أو رزقه، لا يعد شيئاً أمام بقاء حماس”.

اقرأوا بعض ما نشره فلسطينيون من غزّة:

عبد الكريم الأشقر – “كنا بدنا نضم الغلاف لغزة – قام الغلاف ضم غزة للغلاف… كنا بدنا نحرر فلسطين – احتلوا هم غزة… كنا رايحين على القدس – صرنا في رفح … كنا نريد الدولة والتنمية – أصبح أسمى الأماني الخيمة… كنا نريد رفع الحصار عن غزة – هدمت غزة ولم تعد صالحة للعيش… نحن لا نهزم ولكن يمكن أن نندثر… إحنا يتامى مغامرات متراكمة وفشل سياسي”.

نضال أبو شريعة – “أمس، ذهبت أبحث عن كيس طحين مثل عشرات الآلاف… في جو ممطر ورياح شديدة وبرد شديد وطبعاً شوارع لا توصف… الحمير والبغال لا تستطيع المشي فيها والزنانات (نوع طائرات تصدر ضجيجاً شديداً) وقصف الدبابات وإطلاق النار فوق رؤوسنا، لكن الجوع دفع الجموع الزاحفة نحو الطحين… وصلت الشاحنات الى النقطة التي تسيطر عليها دبابات الاحتلال، وفي هذه اللحظة انهمرت الرشاشات… وسقط العشرات… وفي نهاية المطاف اقتربت الشاحنات، وعلى بعد فقط 100 متر من نقطة الجيش كانت 6 شاحنات فقط محمّلة بالطحين، وفي أقل من 10 دقائق كانت فارغة بالكامل. وبتقديري، كانت تحمل 10 آلاف كيس، لكن عدد الناس كان لا يقل عن 120 الى 140 ألف شخص”.

أما الشاعر والكاتب الساخر أكرم الصوراني، فقال: “لا وقت لدينا الآن لوصف حالتنا التي لا توصف، نُجهّز الحطب والنار، ونغلي الماء، ثم لا نجد ما نطبخه، نطبخ كل شيء إلا الطبيخ، نأكل كل شيء عدا الأكل، ما زلنا بحاجة لخبرة في الطبخ وفي التعرّف من جديد على طعم اللحم، رغم اللحم المسفوح في الطرقات، لا وقت الآن، جداً نحن مشغولون، وفارغون، فاضيين أعمال أو كما أُحب أن أُردّد: وإحنا شو ورانا.. ورانا حرب، الوقت من دم، سندفن جثة مجهولة الهوية، تحت شجرة مجهولة الهوية، لا وقت الآن، لا ماء، لا كهرباء، ولا سكر في المدينة، صواني المجدّرة والمعكرونة تجتاح خيم النازحين، وسط معركة أَشبَه بمعركة ذات الصواني، ولا صوت يعلو فوق صوت المعلقة… بعد أربع ساعات من الانتظار، تذكرت أنّي نسيت هويتي في الخيمة، ويبدو أن جيراني المشرّدين هم الآخرون نسوا هويتهم أيضاً في الخيمة… خيمة تخيّبنا!”.

وكتبت المحامية فاطمة عاشور عن الخيارات الصعبة بين الهجرة والبناء أو العيش ألف ألف ألف موتة.

أما مروان أبو ثريا، فطرح أسئلة تبعث على المرارة والألم، بدأها بمقدمة قال فيها: “ليس هناك أكثر جهلاً وغباءً ممن يقول بأن إسرائيل خسرت الحرب لأنها لم تقضِ على حركة حماس. أيهما أهم بالنسبة الى إسرائيل: تدمير شعب أم تدمير تنظيم؟ هل تعلمون ماذا فعلت بنا إسرائيل؟ إسرائيل دمرت الشعب ونكبته في كل تفاصيل حياته، وجعلت الموت هو الخيار الأرحم بالنسبة إليه. إن اسرائيل لم تدمر البيوت فقط ولم تدمر البنى التحتية فقط، ولم تقتل وتجرح أكثر من 100 ألف فقط… ولم تهجر الشعب فقط، بحيث جعلت ثلاثة أرباعه مهجرين. إنها دمرت البنية الأخلاقية في المجتمع. حولت النظام الاجتماعي الحضاري إلى نظام حيواني غرائزي ليست له علاقة بالانسانية. تحكمه شريعة الغاب ويلتهم القوي فيه الضعيف. ماذا يعني أن تُسرق المساعدات الانسانية والإغاثات ويتم بيعها في الأسواق؟ ماذا عن السطو والاستغلال؟ وماذا يعني أن تشتري طبق البيض بمائة شيكل وكيلوغرام البصل بـ 40 شيكل والخيمة بـ 2000 شيكل لناس معدمين؟”.

سميح القاسم كتب بدوره: “لا أحب الموت لكني لا أخاف منه، وأخشى يوماً ما أن أضطر الى استخدام الورق الذي أسجل عليه روايتي الجديدة في إشعال النار لإعداد الطعام لأطفالي، فالحياة أولويات والضرورة أحياناً لها أحكام كافرة”.

هناء عليوة سألت: ” جربت تنام بخيمة؟ جربت تفقد كل شيء بحياتك؟”. وتوجهت إلى الذين يقولون “حاسّين فيكم” قائلة: “تعالوا ناموا بخيمة برفقة 10 أشخاص نصهم أطفال، هي غرفة الأكل والنوم والمعيشة والمطبخ والحمام. جرب تنام بنفس اللبس وتصحى بنفس اللبس وتطلع بنفس اللبس وتعمل كل شي بنفس اللبس… اللي وانت لابسو بتموت من البرد لانو مش لبس شتوي، الخ…”.

عايدة أبو لاشين – “لم أنج بعد من الموت… لم أكن أتوقع أن أعيش بعد هذا اليوم! العاشر من أكتوبر، الساعة الثانية من منتصف الليل. صوت الانفجارات يبدو بعيداً. بلحظة كل شي تغير، تزلزلت الأرض من تحتي وتساقطت الأشياء فوقي. بعد ساعة تجمعوا الناس والدفاع المدني لإنقاذنا، ولكن تم إعلان موتنا جميعاً”… “كنت أسمعهم وأنا تحت الأنقاض، الاسعاف والدفاع المدني وأصوات الجيران. من بين الأنقاض حاولت الصراخ عليهم بكل قوة: نحن هنا أحياء، لم نمت. نحن أحياء تحت الأنقاض، لكن رائحة البارود والغبار التي تدخل في نفسي، أقوى من ذلك الصراخ الذي لم يسمعه أحد… ذهب الجميع للبحث عن أحياء عند سماع غارة جوية جديدة في مكان آخر… كان المكان معتماً جداً، شعرت بشيء ثقيل فوقي. المساحة ضيقة جداً وجسم متخشب لا شي يتحرك مني، لا شيء، بالكاد أستطيع التنفس، بالكاد يصلني الأوكسجين المختلط برائحة البارود. ناديت على زوجي: جمال، جمال، فلم يرد، المكان معتم جداً، حاولت تحرير نفسي ورفع الأثقال، ولكن كان سقف المنزل الاسمنتي أقوى بكثير من محاولاتي… وبكل هذا الوقت أنزف الدم من يدي ورأسي ورجلي محشورة بين الحجارة، مر الوقت: صباح، ظهر، مساء. وأنا أرتجف من البرد وأشعر بالعطش الشديد. وفي صباح اليوم التالي، سمعت خطوات شخص يمشي فوق الأنقاض، مسكت حجر وحاولت أن أضربه بالسقف من فوق رأسي حتى سمعوا الصوت وسألوا: هل من أحد حي هنا. قلت لهم نعم أنا عايدة. أخيراً، بعد 48 ساعة خرجت من تحت الركام، سألتهم عن زوجي (جمال) قال لي أبي إنه بخير، ذهبت إلى المستشفى لمعالجة إصابتي، لم يكن لي سرير، الأموات والمصابون في كل مكان، انتقلت إلى منزل والدي سألتهم مجدداً أين زوجي جمال؟ فكانت الاجابة في أعينهم، مات جمال ومات أخوه محمد وزوجته سلامه وطفلاهما هادي وشام… أنا الناجية الوحيدة من هذه المجزرة. أنا عايدة أبو لاشين من مدينة غزة، لم أنجُ بعد من الموت… حياتي ممكن أن تنتهي في ثانية، ربما الليلة ربما لا. أوقفوا هذه الحرب”.

بتستاهل غزة هذه الاطالة ولنقف عند ما قالته عايدة “أوقفوا هذه الحرب”، وفي حال أرادوا الاستمرار فيها اقرأوا ما يكتبه الناس عن معاناتهم ولا تستمعوا الى خطابات النصر!

شارك المقال