المسيحيون على أعصابهم… انها “تمطر” سوريين

أنطوني جعجع

لم يعد انتشار السوريين في لبنان “مسألة موقتة” على غرار ما أطلق على انتشار جنودهم في مدى أربعين عاماً، بل تحول الى ما يشبه مشروع “احتلال” في مكان وبوادر “حرب أهلية” في مكان آخر.

فما بدأ عملية هرب من الموت في الشوارع أو في الزنزانات تحول الى هجرة طوعية شبه كاملة من سوريا، لا بل الى هجرة عنها، الى الحد الذي بات معظم الوافدين السوريين يعتبر لبنان “وطناً بديلاً” لا بل “قطعة مغتصبة” من سوريا لا بد من استعادتها سواء بالقوة أو عبر الانجاب والمصاهرات وأسواق العمل.

والواقع أن النظام السوري يتلاقى مع هذا المنحى ولا يتعارض معه انطلاقاً من نظريتين ايجابيتين: الأولى أن وجود أعداء له في بلد آخر مسألة يمكن تجاهلها، والثانية أن وجود أنصار ووكلاء له في لبنان يستوطنونه ويمتصون ثرواته، هو مسألة لا يمكن تجاهلها، اذ ان النظرية الأولى تعني جرعة اضافية لسيطرة بشار الأسد على بلد خال من أي ثوار أو ثورات، وان النظرية الثانية تعني امكان السيطرة على لبنان مجدداً من خلال مدنيي سوريا هذه المرة بدل عسكرييها ليتجاوز شعار والده الراحل حافظ الأسد أي “شعب واحد في دولتين” الى “دولتين لشعب واحد”.

وفي جولة متأنية على الخريطة اللبنانية التي رسمت بعد الحرب السورية في العام ٢٠١٢، لا تخلو مدينة أو بلدة أو قرية أو حي أو شارع من كثافة سورية طاغية تمتلك فرص العمل والعملة الصعبة والتفلت من السلطة والحرية شبه المطلقة وحتى السلاح الذي يكاد يكون جزءاً من حاجيات البيت، اضافة الى شعور بفائض القوة على مضيف شبه مفلس وشبه أعزل غير قادر على الاحتجاج سلماً أو على اللجوء الى دولة متماسكة أو قوة أمنية فاعلة.

وأكثر من ذلك، يعرف معظم السوريين، أنه وقع على “دجاجة تبيض ذهباً” لم تكن متوافرة في بلاده، ولا سيما في مجال التعليم والتنوع الثقافي والفني والسياسي والعقائدي والمالي، اضافة الى التسيب في كل المجالات بدءاً من التهريب مروراً بالمعصيات والمحظورات، وصولاً الى التجارة بكل شيء وأي شيء، وذلك بالشراكة مع أهل الفساد من أهل البيت والكثير من أهل الحكم، اضافة الى الغطاء المشبوه الذي يفرضه المجتمع الدولي على التجذر السوري في لبنان انطلاقاً من شعارات ملتبسة وغطاءات واهية.

هذه الحقيقة يعرفها السوريون ويتمسكون بها الى الحد الذي يجعلهم مستعدين للقتال من أجلها، وهو أمر يعيدنا في الزمان الى ستينيات القرن الماضي عندما عايش الفلسطينيون الشعور نفسه قبل أن يغرقوا في حرب أهلية أعادتهم بعد سلسلة من التجارب الدامية، الى المخيمات في مكان والى رشدهم في مكان آخر.

وهذه الحقيقة يعرفها اللبنانيون أيضاً وتحديداً المسيحيون الذين يرون في الانتشار السوري في مناطقهم خصوصاً وبلادهم عموماً، ما كانوا يتخوفون منه في زمن البندقية الفلسطينية وقبلها في الخمسينيات في فورة البندقية “الناصرية”.

وليس خفياً أن هذا الشعور بدأ يظهر الى العلن في شكل متدرج ويتخذ في بعض المرات شكل مواجهات مباشرة في الأحياء والشوارع والقرى وأماكن السكن عينها، ويشهد على تنامي الحقد والكراهية والعنصرية الى حد اطلاق دعوات للتسلح والاستعداد لحرب أهلية جديدة.

وليس خفياً أيضاً، أن السوريين يعرفون ذلك من دون أي اكتراث أو خوف، وسط تقارير تتحدث عن حملة تسلح في صفوفهم ونشر خلايا مدربة في مناطقهم قادرة على التحرك والتنقل والتخفي من دون أي رادع أو عراقيل .

“انها تمطر سوريين”، هذا لسان حال المسيحيين الذين يشعرون بأنهم يقفون وحدهم في مواجهة هذا الزحف الهائل الذي يطاول أي شيء في طريقه، ويسألون: “هل كتب علينا أن نحمل السلاح كلما يتحول شعب نحضنه في بلادنا الى احتلال مسلح يهدد وجودنا وأمننا وحريتنا وتراثنا؟”.

وهل حان الوقت مجدداً ليعرضنا العالم للبيع من أجل شعب آخر؟ سؤال آخر يطرحه المسيحيون الذين يراقبون المجتمع الدولي وهو يوطن السوريين في لبنان بالقوة حيناً وبالمغريات حيناً آخر، ضارباً عرض الحائط بكل البوادر التي تشير الى احتمال وقوع متغيرات ديموغرافية ومواجهات مسلحة، منطلقاً من قرار غربي موحد هو: “لا مكان في أوروبا لأي لاجئ سوري يمكن أن يهدد أمننا ونظام عيشنا أو يبدل واقعنا الديموغرافي خصوصاً والديني عموماً، أو يتحول يوماً الى مشروع ارهابي يتحدر من ألغام الشرق الأوسط وتراكماته”.

ويقول مصدر ديبلوماسي غربي في هذا الصدد: “لماذا تلومون أوروبا في ما أنتم فيه اليوم وما كنتم فيه بالأمس؟ لو كنتم دولة ذات سيادة لما تحكم فلسطيني بكم ولا استخف بكم سوري”، مضيفاً: “اننا نشتري أمننا من دولتكم في بلد يعبد المال من رأس القمة الى قعر القاعدة… كل سوري يقيم في لبنان دفعنا ثمنه بالعملة الصعبة”.

ويتابع: “منذ ستينيات القرن الماضي لم يكن لبنان أكثر من أرض سائبة، ولم يكن شعبه أكثر من طوائف متباينة ومتباعدة، الأمر الذي جعله أكثر خصور الشرق الأوسط هشاشة وأكثرها عرضة للانتهاك والخرق والاستغلال… لا ترموا مشكلاتكم على أكتاف الآخرين”.

هل في كل ما قاله الديبلوماسي الغربي على الرغم من فجاجته ما يمكن انكاره؟ طبعاً لا، يقول مسؤول في المعارضة المسيحية، ويتابع: “لكن هذا لا يعني أن تتجاهل أوروبا حقوق الانسان في أراضيها وتقاتل من أجلها في أرض الآخرين وعلى حساب الآخرين، ولا يعني أيضاً أن ينام الغرب هانئاً وننام نحن وأيدينا على الزناد”.

ويختم: “منذ انتقل العالم من سياسة دعم الشعوب الحرة الى دعم المصالح حصراً، ولبنان الصغير لم يعد في نظر العالم وطناً قابلاً للحياة أو سلطة قابلة للاحترام”، قائلاً: “لم يمر في تاريخ لبنان مثل هذه الطينة من الحكام المجردين من أي حس يتجاوز حب المال ونزعة الخيانة”.

هذا في المواقف، لكن ماذا على الأرض؟

الجواب: لا شيء تقريباً، فالشيعة يعتبرون أي سوري موال للأسد عنصراً حليفاً، وأي سوري معاد له عنصراً يمكن لجمه أو ترحيله أو حتى مواجهته بالسلاح كما حدث في سوريا ذاتها، وأن وجودهم يشكل ورقة ضغط مجانية على المعارضة المسيحية، في حين أن السنة، بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري، يعرفون أنهم فقدوا آخر موقع صلب لهم بعد ضرب السنة في سوريا وتحجيمهم في العراق وتقسيمهم في فلسطين، وباتوا بين خيارين: اما الدخول في مواجهة سنية – سنية واما الدخول في مواجهة سنية – شيعية وهما خياران أقل ما يقال فيهما انهما الانتحار عينه.

وهنا لا بد من سؤال بديهي: ماذا يعني كل هذا، وهل وصل الضخ الشعبي السوري في الهيكل اللبناني الى مكان لا يمكن الرجوع عنه؟

الجواب: نعم ولا… نعم لا يمكن الرجوع عنه ما دام بشار الأسد في السلطة وما دام حسن نصر الله من حراسه، وما دام المجتمع الدولي تاجراً إن لم يكن فاجراً، ونعم يمكن الرجوع عنه اذا شرب الحكام “حليب السباع” أو اذا أصاب لبنان زلزال آخر يشبه زلزالي “الرابع عشر من شباط” “والرابع عشر من آذار” عندما وقف اللبنانيون على الطرق وهم يتفرجون على الدبابات السورية وهي تعود الى بلادها بعد نحو أربعين عاماً من وصاية واحتلال.

في الانتظار، انها القنبلة الموقوتة التي يمكن ألا تصل دقاتها الى الزر الذي يفجر كل شيء، اللهم الا اذا شاءت الأقدار أن تجعل لبنان “مقبرة” لشعبين لم يعرفا أنهما استشهدا ذات يوم كي يحيا الآخرون.

شارك المقال