هل تغيير النظام السياسي في لبنان حتمي؟

صلاح تقي الدين

يوماً بعد يوم بات واضحاً أن لبنان الصيغة والنظام غير قابل للحياة ويجب التفكير جدياً في إجراء تعديل يضمن استمرار المكونات اللبنانية كافة في العيش على بقعة الأرض التي يعتبر البعض أنها كانت هبة من الله، لكن الانسان اللبناني أمعن في استغلالها لمآرب وغايات جعلتها نتيجة النظام الذي كان قائماً بقعة غير قابلة للحياة.

كيف يمكن لهذه الصيغة أن تستمر بعدما استقوى فريق على باقي اللبنانيين وأصبحت قاعدته إما أن تكون معنا أو أنت ضدنا؟ هل يمكن لهذا المنطق أن يضمن استقراراً وسلاماً بينهم؟ هل يمكن لدولة عجزت أمام أمراء الطوائف فيها أن تعدل في قوانينها وسلطتها لتحكم بحزم وعدل بين أبنائها الذين يحملون الهوية اللبنانية؟

أسئلة كثيرة يمكن طرحها في هذا الاطار، لكن المناظرات الاعلامية تكشف ما خفي من طموحات ونيات الفرقاء السياسيين على غالبيتهم، فهذا الذي كان متمسكاً بنظام الطائف ووثيقة الوفاق الوطني، بدأ يطرح علناً عجزه عن القبول بالاستمرار وفق هذا النظام وينحو باتجاه اعتماد “الفديرالية” المقنعة كبديل عن “التقسيم”، علماً أن ما تكبده من خسائر دفعته الى القبول باتفاق الطائف مخرجاً يفوق ما تكبده الفرقاء السياسيون “المتحاربون” الآخرون.

لم تخرج الدعوات العلنية إلى “الفدرلة” أو ما يسمّى باللامركزية الادارية “والمالية” الموسعة إلا بعد بدء هيكل الدولة بالسقوط نتيجة الفساد والإفساد والأطماع اللامحدودة سواء بالسلطة أو بالمال، علماً أن الأولى أي السلطة هي الوسيلة لتحقيق الثانية أي المال.

في الواقع، لقد أثبت النظام اللبناني أنه “ولاّد” للمشكلات منذ قيام الجمهورية الأولى، وحتى الجمهورية الثانية لم تكن قادرة على تطبيق مبدأ القانون يعلو ولا يعلى عليه، فكان الاستقواء سمة الفرقاء لحل المعضلات دستورية كانت أم قانونية، وكانت البداية في العام 1952 مع الثورة البيضاء، تلتها في العام 1958 الثورة الشعبية لمنع انضمام لبنان إلى حلف بغداد، ثم أزمة العام 1969 التي كانت بداية تهشيم الجمهورية اللبنانية وسلطتها من خلال منح “الفدائيين الفلسطينيين” سلطة فوق سلطة الدولة وإقامة ما سمي بـ “فتح لاند”، ثم انفجر الوضع نهائياً في العام 1975 مع الحرب الأهلية السيئة الذكر.

لم تبقَ قوة خارجية إقليمية أو دولية إلا وكانت لها يد في الأحداث التي كانت جارية على أرض لبنان، إلى حد دفع الوزير والنائب والسفير الراحل غسان تويني إلى وصفها بأنها “حرب الآخرين على أرض لبنان”، وكم كان محقاً رحمه الله، فالمتقاتلون على أرض لبنان كانوا يتلقون السلاح والتمويل كل من جهة خارجية رأت فيهم القدرة على تثبيت حضورها في الداخل، واستمر الوضع على هذا المنوال والدولة تنهار رويداً رويداً بعدما بدأ الأمر بانقسام الجيش اللبناني، إلى أن جاء الترياق من خلال اتفاق الطائف ورعاية المملكة العربية السعودية.

على الرغم من أن هذا الاتفاق الذي كلّف نظام الوصاية السوري بتطبيقه، وأتى بأمراء الحرب إلى السلطة، تضمن بنوداً إصلاحية كان يمكن في ما لو تم تطبيقها أن تحصّن العيش الواحد بين مختلف المكونات اللبنانية، إلا أن “المصالح” كانت أقوى بكثير ولم تقصّر سوريا في رعاية هذه المصالح وتوزيعها على “حلفائها” فكانت النتيجة الحتمية أن لا تبني الدولة سلطتها القادرة على اتخاذ القرارات السيادية من دون تدخل خارجي، ومع أن الرئيس الشهيد رفيق الحريري حاول بعد وصوله إلى السلطة في بدايات عهد الطائف أن يبني دولة مركزية قوية وقادرة وإقتصاد إنتاجي غير رعوي، إلا أن اغتياله كان ضمن مخطط إنهاء الدولة اللبنانية وإسقاطها نهائياً وبدأ ذلك في العام 2005.

ويقول مصدر سياسي معارض: “بعد اغتيال الشهيد الحريري صرنا نسمع مصطلحات مثل سقوط المارونية السياسية في العام 1975، وسقوط السنية السيايسة في العام 2005 وبدء الشيعية السياسية منذ نهاية حرب تموز 2006، لكن الواقع هو أن لا فريق قادر على فرض إرادته على باقي اللبنانيين وكما سقطت نطرية السنية السياسية ونظرية المارونية السياسية، فإن نظرية الشيعية السياسية غير قادرة على الاستمرار من دون باقي المكونات الطائفية الأخرى في لبنان”.

ويضيف المصدر: “إن سبب سقوط النظريتين السابقتين كان بسبب شعورهما بفائض القوة من خلال ممارستهما السلطة بطريقة استفرادية، وإذا لم يتنازل الثنائي الشيعي عن شعور فائض القوة الذي يمارسه حالياً وتحديداً حزب الله المستقوي بسلاحه والمصادر لقرار الحرب والسلم، فإن المستقبل لا يبشر بالخير إطلاقاً وسقوط الشيعية السياسية حتمي إذا استمر الأمر على هذا المنوال”.

وما زاد الطين بلة لدعوات “الانسلاخ” هو أن “حزب الله” في 8 تشرين الأول الماضي وعقب اندلاع “طوفان الأقصى” استفرد بقرار فتح جبهة الجنوب “لاسناد غزة” ثم تبرير ما قام به أنه كان “حملة استباقية” لمنع العدو الاسرائيلي من اجتياح لبنان.

قد يكون مبرر “حزب الله” مقبولاً، غير أن الجهات اللبنانية المعارضة لتدخله في الحرب الاسرائيلية على غزة وتعريض لبنان للقصف المدفعي وغارات الطيران الاسرائيلي الذي وفق “الدولية للمعلومات” أدى إلى تدمير أو إلحاق الضرر بحوالي 3 آلاف وحدة سكنية في الجنوب، ناهيك عن تهجير حوالي 100 ألف مواطن جنوبي، لا تقبله ولا تريد أن يجرها إلى حرب سيدفع لبنان واللبنانيون جميعهم ثمنها، فالأفضل أن “يعيشوا كما يريدون وأن يدعونا نعيش كما نريد”.

هذا هو المنطق الحقيقي الذي يتم التدوال به خصوصاً في الأوساط “المسيحية” على الرغم من أن غالبية السنة وغالبية الدروز قد تكونان من هذا الرأي، لكن المجاهرة بهذا الموقف والمطالبة بالفدرلة أو “اللامركزية” الموسعة، هي دعوة للانسلاخ النهائي وسقوط لبنان الكيان والدولة نهائياً.

هل أصبح تغيير النظام السياسي القائم، ضرورة حتمية لكي يبقى لبنان الذي نعرفه ويبقى العيش الواحد ميزته، أم أن سقوط الدولة وانهيارها بالشكل التدريجي الذي نشهده، سيعني نهاية الكيان برمته؟

يقول أستاذ العلاقات الدولية الدكتور خطار أبو دياب الذي كرّمته الحركة الثقافية في أنطلياس مؤخراً أنه “يجب أولاً استعادة لبنان لكي يبقى”، وهو محق إذ ان ما نسمعه اليوم ليس استعادة للبنان بل تمكين لطوائف على حساب الوطن.

شارك المقال