14 آذار: ذكرى في البال

صلاح تقي الدين

لا يمكن لمن شهد ذلك “الطوفان” البشري في ذلك اليوم المهيب من تاريخ لبنان في الرابع عشر من آذار 2005 إلا أن يكون قد احتفظ في باله بذكرى لا يمكن أن تنسى، حين اجتمعت أطياف البلد كله تنادي بالحرية والسيادة والاستقلال، هذا الحلم الذي تراجع وهجه منذ ذلك التاريخ حتى أضحى اليوم طيفاً يلاحقه في حضوره ويخشى أن يكون قد أصبح بعيد المنال.

لم يكن يوماً عادياً حين اجتمع المسلم والمسيحي والدرزي جنباً إلى جنب لتذكير مؤيدي محور المقاومة بأن لبنان أولاً وأن خروج نظام الوصاية الذي اتهم باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري لم يعد مطلباً مقتصراً على فئة دون أخرى، بل أصبح حتمياً وقد تحقق ذلك فعلاً بعد شهر ونيف من ذلك اليوم.

في ذلك اليوم، فاضت “قريحة” وليد جنبلاط الرئيس السابق للحزب “التقدمي الاشتراكي”، وأطلق مواقف بدأها بالمطالبة عوضاً عن تحرير مزارع شبعاً بتحرير “مزرعة بعبدا” التي كان قابعاً فيها ومعتقداً أنه يديرها الرئيس السابق اميل لحود، لكن مطلبه جوبه بمواقف مضادة من الفريق نفسه، وقد يكون ذلك السبب الذي دفعه لاحقاً إلى التزام “الوسطية” والخروج من التحالف الكبير.

وها هو لبنان اليوم، وعلى الرغم من خروج نظام الوصاية، لا يزال مجرداً من أحلام السيادة والاستقلال، مع أن الحرية أصبحت هي الأخرى مقيدة بعدما كانت ميزة البلد في المنطقة التي تحكمها أنظمة ديكتاتورية متوحشة، فأصبح شعار “أنت معنا أو أنت ضدنا” سائداً والتخوين لغة يومية تستخدم في العلن وعبر مختلف وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي.

“من يعمل كثيراً يخطئ كثيراً” قد يكون الوصف الأنسب لمحاولات الفريق السيادي لبناء دولة المؤسسات، وقد تكون الأخطاء التي ارتكبها هذا الفريق سبباً في إمعان الفريق الممانع في فرض سيطرته على البلد، ومصادرة كل القرارات السيادية وفي مقدمها قرار الحرب والسلم والذي يبدو أنه سيدخل لبنان في أتون حرب مدمرة أخرى تقضي على بنيانه المؤسساتي بالكامل.

لقد كان التحالف الرباعي في انتخابات العام 2005 محاولة صادقة لجمع الأضداد ومحاولة إيجاد قواسم مشتركة يبنى عليها، وكانت النتائج الانتخابية لصالح الفريق عينه، غير أن تشكيل الحكومة كان العقبة التي واجهها، بحيث أن “التسونامي” الذي اجتاح المناطق المسيحية، فرض نفسه كأمر واقع وجب التعامل معه وتلبية بعض “شروطه” الحكومية، كل ذلك في إطار “حسن النية” الذي كان يميز عمل الفريق السيادي الراغب حقاً في بناء دولة القانون والمؤسسات.

لكن المفاجأة حصلت بعد فترة قصيرة، إذ تخلّى “التسونامي” عن كل شعاراته السابقة وعقد اتفاقاً في كنيسة مار مخايل، كانت تبعاته اللاحقة مدمّرة، غير أنها في تلك المرحلة لم تكن واضحة فانقسم البلد عمودياً بين فريقين، فريق يطالب ببناء الدولة والمؤسسات، و”فريق مار مخايل” الذي بدأ بالتخطيط لهدم ما تبقى من بنيان الدولة وهو ما نشهده حالياً.

ثم كانت الطامة الأولى في حرب تموز 2006، حيث كلّفت “لو كنت أعلم” لبنان الكثير، على الرغم من أن “شكراً قطر” ساهمت في تخفيف الآثار المادية لتلك الحرب، لكن اليوم، “الاسناد” الذي يزعم الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصر الله أنه منع العدو الصهيوني من التفكير في شن حرب على لبنان، يخشى أن يتحول إلى “لو كنت أعلم” أخرى، فاستهدافات إسرائيل فاقت بكثير تلك التي اعتبر الحزب أنها لن تتخطى قواعد الاشتباك المعمول بها منذ العام 2006، لكنها ذهبت أبعد بكثير فطاولت بعلبك بعدما “مرّت” على الضاحية الجنوبية وساحل الشوف.

والطامة الثانية والأكبر كانت “الوعد الصادق” الذي أبلغه السيد نصر الله للرئيس السابق ميشال عون بإيصاله الى قصر بعبدا، فبعد أن ترك البلد في حالة فراغ صال خلالها وجال داخل إدارات الدولة المتهالكة أصلاً، نجح الحزب في تحقيق الوعد ووصل عون إلى الرئاسة وبدأ مسلسل الانهيارات المتتالية المرسومة على ما يبدو ضمن مخطط قام على مبدأ “غطي سلاحي أغطي فسادك” فكان ما كان من انهيارات ومآسٍ لحقت بالمؤسسات واللبنانيين.

ومع الحرب المدمرة التي يشنها العدو الصهيوني على غزة، كان قرار “حزب الله” إشعال جبهة “إسناد” في الجنوب بدفع ذاتي وفي ظل فراغ رئاسي مسؤول عنه بالدرجة الأولى، وحكومة تصريف أعمال يسيطر على قراراتها، ما جعل البلد في حالة حرب لن يطول الوقت قبل أن تتوسع لتزيد من حجم الدمار والانهيار الذي أصاب مؤسسات الدولة، فتحطمت كل آمال وأحلام الفريق السيادي الذي لا يزال ينام على أمجاد 14 آذار.

أين ذلك اليوم “المجيد” مما نراه اليوم؟ أين “الطوفان” البشري الذي لا يزال قادراً على أن يسبق الزعماء السياسيين فينزل إلى الساحات رافعاً شعار “تحرير” الدولة قبل أي “تحرير” آخر؟ التاريخ يعيد نفسه على شكل مأساة أو مهزلة، لكن في الحالتين لن يعيد 14 آذار.

شارك المقال