رفيق الحريري… كان رجل الخير في شهر الخير

زياد سامي عيتاني

كم يشتاق اللبنانيون الذين تنتابهم مشاعر متناقضة وممزوجة بالشوق والحنين والحسرة والأسى كلما أطل عليهم شهر رمضان المبارك، الى زمن رفيق الحريري “الرمضاني”، حين كان يحرص على إضفاء أبعاده الانسانية على نفوس كل الناس، الذين يشعرون من خلاله بحقيقة الأجواء والقيم الرمضانية.

فخلال شهر رمضان المبارك، ما من شخص إلا وكان يدعى إلى مآدب الافطارات الرمضانية في دارته في قريطم، إما بصفته المهنية، وإما بصفته العائلية، وإما بصفته وجهاً اجتماعياً، أو منتسباً إلى جمعية أهلية أو رياضية أو خيرية، أو بصفته موظفاً في أي من القطاعات المتنوّعة، أو حتى كونه مجود مواطن عادي. فكانت دارة قريطم الرحبة كقلب صاحبها، تعج يومياً بآلاف الأشخاص على موعد الإفطار، يأتون إليها قبل المغرب بساعات، فتتحول القاعة الكبرى إلى ملتقى لهم، يجمعهم على تنوع فئاتهم الاجتماعية والثقافية والمهنية، وسط مشاعر المحبة والألفة، التي تتكرس من خلال التواصل والتلاقي في ما بينهم، والتي كانت تحول دون ذلك الحياة “المدينية” المخيمة، التي ساهمت في تفكّك الروابط العائلية والسكنية في المدى البيروتي تحديداً واللبناني عموماً، بحيث تمكن الرئيس الشهيد من وصل ما إنقطع إجتماعياً، بفضل شخصيته و”كاريزماتيته” الساحرتين في وجدان الناس، ولا مبالغة ولا مغالاة في القول ان دارته في قريطم خلال الشهر الكريم، كانت تتحول إلى نموذج مصغر للبنان التنوع والتعدد والتلاقي. كم كان يبدو مشرقاً وفرحاً وسعيداً عندما يدخل القاعة، فيستقبل بعاصفة من التصفيق، وتشعر جموع المحتشدين بمجرد إطلالته، بالاطمئنان والثقة، خصوصاً عندما كان يخاطب طموحاتهم وتطلعاتهم وهواجسهم، ويتحدث عن مشاريع الانماء والاعمار والنهوض الاقتصادي بصدق وبساطة، مقرونة بحجة الاقناع بالوقائع والحقائق.

وفي رمضان كان الرئيس الشهيد يدق أبواب الفقراء والمعوزين و”العائلات المستورة” بصمت و”تخفٍ” من خلال “مكتب المساعدات” و”جمعية بيروت للتنمية الاجتماعية” التي يكلفها القيام بعملية توزيع الحصص الغذائية على المواطنين وإيصالها الى منازل المستفيدين، حفاظاً على كرامتهم وعزة نفسهم، والتي كانت تفوق المئة ألف حصة في بيروت وحدها، حيث كان لي شرف المساهمة السنوية في هذه العملية الضخمة والشاقة، بكل إقدام وتفان، إلى جانب الأستاذين صالح فروخ وعزة قريطم، وفريق عمل كبير، بإشراف النائب السابق سليم دياب، تخفيفاً من الأعباء المعيشية للمواطنين المسلمين والمسيحيين على حد سواء، لينعم الجميع بشهر الخير والعطاء. في حين كان “مكتب المساعدات” يقدم المساعدات النقدية للعائلات المتعثرة، بصمت مطبق، فضلاً عن تسديد فواتير الطبابة والاستشفاء والدواء، إضافة الى التنسيق مع الجمعيات الأهلية ولجان المساجد والكنائس والمختارين، لإنجاز ما يقدم “المكتب” من مكرمات.

أما عندما كان يلبي دعوات إفطار كبرى المؤسسات والجمعيات الاسلامية الخيرية، فلم تكن لمجرد الرعاية من موقعه كرئيس للحكومة، وفقاً للتقليد المعمول به، بل كانت مشاركته ورعايته، تتويجاً للدعم اللامحدود الذي كان يقدمه لها، لتتمكن من تسديد ديونها، وبالتالي منحها الدفع والقدرة والدعم لتواصل رسالاتها في شتى مجالات إختصاصها الاجتماعية، لقناعته الراسخة بأن تكامل تقديمات الدولة مع المؤسسات الأهلية أمر حتمي وضروري لنهضة المجتمع وتنميته.

لم يسبق للبنانيين أن عرفوا او خبروا شخصيات أو زعامات سياسية، لا سيما في الوسط السُّنّي، والبيروتي تحديداً، تشبه رفيق الحريري في عطاءاته الكثيرة المتنوّعة. لقد كسر الحريري النمط التقليدي لعلاقة الناس بزعمائهم، وأحزابهم (ذات العقلية الميليشيوية)، الذين يقدّمون الخدمات لـ”جمهورهم الخاص” من مؤسسات الدولة وأجهزتها، وفق مبدأ الولاء والمحسوبية والاستزلام. إذ تجاوز الحريري ذلك النمط بتوسيع وتنويع دوائر تلك العلاقة مع الناس من مختلف الطوائف والفئات، من دون أي تمييز، حتى قبل وصوله إلى رئاسة الحكومة، من عطاءاته ومساعداته، وكذلك من خلال إنشاء مؤسسات إجتماعية وتربوية وصحية عملاقة، فضلاً عن مساهمته، بعد الاجتياح الاسرائيلي من خلال شركته الخاصة “أوجيه لبنان” في مسح آثار العدوان الاسرائيلي في كل من صيدا وبيروت، وإعادة بث الروح فيهما.

منذ الاغتيال المدوي، كلما حلّ شهر رمضان المبارك، تستحضر الناس أهمية رفيق الحريري وعظمته كأب للجميع، بعدما أُصيبت في صميم مشروعها وتمثيلها، وبالتالي شعورها بما يشبه اليُتم بعيد فقده وغيابه. في شهر الخير، لا يمكن إلا أن نذكر رجل الخير الرئيس الشهيد رفيق الحريري بكل خير.

شارك المقال