“ردة” باسيل… هل يَصدُق هذه المرة؟

أنطوني جعجع

معظم المسيحيين خصوصاً واللبنانيين عموماً يسأل في العلن وفي الكواليس، هل بات النائب جبران باسيل المرجعية المسيحية الوحيدة المخولة أو الصالحة لجمع المسيحيين في بكركي؟ وهل يحظى الرجل لدى المسيحيين بما يكفي من المصداقية والمواقف المؤثرة والوازنة كي يدفع سائر المرجعيات المسيحية الى السير خلفه في أي دعوة أو مبادرة أو معركة؟

الجواب في معظمه ليس ايجابياً، خصوصاً أنه يأتي من رجل يمارس سياسة القفز الذي لا يهدأ أو بالأحرى سياسة المناورة التي لا تستكين، والرجل الذي يقول عنه أحد معارضيه المخضرمين: “ان المسيحيين بالنسبة اليه لا يكونون في أمان إن لم يكن هو في أمان، وان حقوقهم لا تكون منقوصة ما دامت حقوقه هو كاملة”.

ويضيف: “ان باسيل وصل الى اقتناع راسخ بأنه قادر على رسم المسار السياسي الذي يريده، وعلى ادارة الأمور بالطريقة التي ينشدها، وعلى تحديد الخيارات التي تناسبه، يساعده في ذلك أن الفريق المسيحي الآخر وقع في أفخاخه أكثر من مرة، بدءاً من تبني عمه ميشال عون رئيساً للجمهورية مروراً بقانون الانتخاب الذي فصله على قياسه، وانتهاء بالتقاطع على جهاد أزعور بدلاً من ميشال معوض”.

وليس في هذا الانطباع الكثير من المبالغة، اذ أثبت الكثير من الوقائع والتجارب أن رئيس “التيار الوطني الحر”، اعتبر نفسه مرجعية مسيحية خاصة ومستقلة لا بل استثنائية، لا علاقة مباشرة لها بالكنيسة المارونية أو بالكتل المسيحية الأخرى، وأنه “نسخة” سياسية منقحة عن كميل شمعون و”نسخة” شعبية منقحة عن بشير الجميل وخليفة سياسية وشعبية معاً للجنرال ميشال عون.

وأكثر من ذلك، يجمع الكثير من المراقبين والمتتبعين لحركة باسيل على أن الأخير يكاد يتجاوز عمه في عشق السلطة ونزعة التفرد والهيمنة داخل البيت الواحد وخارجه، وفي المضي بأي شيء والتوقيع على أي شيء ما داما يؤديان به الى مبتغاه، مؤكدين أن الحملة التي يشنها هذه الأيام على “حزب الله” ومغامرته العسكرية في الجنوب، لم تكن لتنطلق لو تخلى حسن نصر الله عن سليمان فرنجية ومضى به أو بمن يختاره حتى النهاية كما فعل على الطريق نحو تثبيت ميشال عون رئيساً للجمهورية.

وهنا لا بد من سؤال بديهي: لماذا يعترض باسيل على فرنجية ما دام الأخير يدعم “حزب الله” كما يفعل هو، ولا يعادي سوريا كما يفعل هو، ولا يشاكس ايران كما يفعل هو، ولا يعترض على السلاح كما يفعل هو؟ ولماذا قرر اليوم تكريس بكركي مرجعية مسيحية وحيدة، وهو الذي يعرف ما يريده البطريرك بشارة الراعي، وما ينادي به، وما يناضل من أجله؟ ولماذا اتخذ موقفاً رمادياً من أمرين جوهريين نادى بهما الراعي طويلاً، هما حياد لبنان وتدويل أزمته، اضافة الى المواصفات السيادية والمستقلة التي يضعها للرئيس العتيد؟ ولماذا لم يشن حملة مضادة ضد المحور الذي طاول بالسوء البطريرك الماروني، واستبدلها بحملة عنيفة على مرشح يرتاح اليه الراعي وهو قائد الجيش جوزيف عون؟

ويذهب المراقبون الى نتيجة واحدة تتمثل في أن باسيل لا يرى أبعد من محيطه، وأبعد من مصالحه، لا يتعامل مع أي نار الا اذا لامست أعتاب منزله، لافتين الى أن رئيس “التيار الوطني الحر” يرفض أن يصدق أنه فقد مصداقيته في كل مكان حتى في صفوف تياره، فلا هو على تماهٍ مع “حزب الله” ولا هو على شراكة مع بكركي، لا هو على توافق مع الأحزاب المسيحية ولا هو على وئام مع السنة أو على تصالح مع الدروز.

أضف الى ذلك أنه معزول في العالم العربي بأكثريته السنية التي هاجمها ومراراً وألصق بها تهمة “الارهاب الأصولي”، ومعاقب في أميركا التي تتهمه بتغطية حزب “ارهابي”، وملتبس في العالم الغربي الذي يرى فيه أحد مداميك الفساد الذي طاول عهد ميشال عون، أي العهد الذي أدار فيه البلاد من وراء الكواليس ومن دون شراكة مع أي طرف مسيحي أو سني أو سيادي، مكتفياً بما يتقاسمه مع “حزب الله” من مغانم ومسارات واستراتيجيات.

وسط هذا المشهد، نعود الى السؤال الأول، ماذا يمنح جبران باسيل الحق في التحدث باسم المسيحيين أو على الأقل التفرد في طرح مخارج لهم وحلول ومنافذ؟

الجواب لا يحتاج الى الكثير من التمحيص، ويتلخص في أمرين أساسيين، الأول أن البطريرك الماروني تأخر كثيراً في رفع عصاه فلم يعد مهاباً لدى “حزب الله” ولا مطاعاً لدى رعيته، والثاني أن الأحزاب المسيحية وفي مقدمها “القوات اللبنانية” تأخرت كثيراً في كشف باسيل ومناوراته الى الحد الذي باتت محاسبته أو تطويقه أو لجمه أمراً لم يعد يجدي أو يغير في الأحوال المزرية حالاً.

ووسط هذا المشهد أيضاً، يبقى أن يدرك باسيل أنه هو أيضاً تأخر في الانعطاف نحو الوجدان المسيحي المأزوم، وأن ما يحاول فعله، سواء صدقاً أو مكراً، ليس الا رسالة مزدوجة، واحدة نحو الضاحية الجنوبية يتوخى منها إحراج نصر الله وحمله على بعض التنازلات الرئاسية، وواحدة نحو المسيحيين يتوخى منها استعادة هويته المسيحية التي تحولت طويلاً الى هوية ملتبسة تحمل الصليب في الرابية، ثم العمامة في الضاحية، وبعدها العلمانية في بلاد الغرب والانفتاح في بلاد العرب.

ويختم “تياري” سابق قائلاً: “حاولت أن أفهم هذا الرجل عبثاً وكنت كمن يبحث عن ابرة في كومة قش. انه واحد من أدهى الأدهياء في تاريخ لبنان لكن مشكلته أنه لا يكترث متى يكون صادقاً ومتى يكون متقلباً، معتبراً الرأي العام قوة قابلة لابتلاع أي شيء سواء اقتناعاً منه أو نكاية بالآخرين”.

حتى الآن، شيء واحد يتفق عليه المسيحيون وهو رأس سليمان فرنجية، لكن السؤال يبقى: ماذا عن القضايا الجدلية الأخرى، وتحديداً الزحف الشيعي الذي ساهم فيه أنصار باسيل نحو “المناطق المسيحية الصافية” في جبل لبنان؟

حتى الآن أيضاً، لم تلقَ دعوة باسيل تجاوباً يتجاوز الشكل واللياقات من أي فريق مسيحي فاعل في ظل وشوشات خلف الكواليس تتحدث عن محاولة من باسيل لاطلاق النار من بكركي، بدلاً من معراب، نحو “حزب الله” الذي قرر بدوره “العض على جرحه” وتأجيل تصفية الحسابات الداخلية الى ما بعد انكشاح الغبار عن مغامراته الخارجية. انها في اختصار اللعبة التي بدأت بدغدغة “حزب الله” في العام ٢٠٠٦ من أجل انتزاع الرئاسة على ظهر الشيعة و”زكزكته” في العام ٢٠٢٤ لتكريس الزعامة على ظهر المسيحيين.

شارك المقال