آخر المعارك الخاسرة!

علي نون
علي نون

أيا تكن نتيجة المنازلة الراهنة في شأن تشكيل الحكومة، فإن عنوان رئاسة ميشال عون للجمهورية المنكوبة، كان ولا يزال هو إسقاط اتفاق الطائف وإعادة الزمن إلى الوراء… ويمكن بقليل من الغيظ والكثير من التروي، الافتراض السعيد بأن حصيلة هذه المعركة لن تختلف عن حصيلة كل المعارك التي انخرط فيها الجنرال عسكرياً، والرئيس سياسياً، أي الهزيمة والفشل!

هذا جنرال لم تسجل في ملفه معركة واحدة ناجحة… إلا إذا اعتبر أن تدمير المنطقة المسيحية على مذبح طموحه الرئاسي في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، في ما سمي “حرب الإلغاء” هو انتصار يمكن الاعتداد به! أو إذا كانت “حرب التحرير” التي تلت ذلك التدمير، هي أيضاً في عرفه، انتصار كبير مع أنه هرب في خلاصتها إلى السفارة الفرنسية ومنها إلى المنفى البعيد.

وحتى عندما كان قائداً عسكرياً لجبهة سوق الغرب أيام الرئيس أمين الجميل، لم يظهر أي تميّز يذكر، بل إن شهادات موثوقة، أبرزها لقائد الجيش آنذاك الجنرال ابراهيم طنوس، تكشف أن “قائد” الجبهة لم يكن يزورها! وكان “يقود” عناصره عن بعد… وكان يقيم وينام في أحد الفنادق البعيدة عن خطوط التماس، بل إن زملاء له عاينوا، أي شاهدوا بالعين المجردة والمباشرة، ردة فعله في بعض حالات إطلاق النار والقصف المتبادل، وهذه، في ألطف الأوصاف، لم تكن تليق بضابط عسكري ولا بقائد جبهة!

هذه السيرة (الموثّقة) دلّت وتدّل على عبث الأقدار المتلاعبة بلبنان وأهله، لكنها تدّل أكثر على عبثية بعض رجال السياسة والحكم في لبنان وقلّة اكتراثهم بالمصير العام وتغليبهم الكيد على المنطق السوي، وخصوصاً، وتحديداً، هؤلاء الذين كانوا يعرفون تماماً وبدقّة خصال ذلك الضابط، ومع ذلك عُيّن بدايةً قائدًا للجيش، ثم رئيساً للحكومة العسكرية الانتقالية بعد ” تفضيل” الفراغ في موقع رئاسة الجمهورية على الإتيان بمخايل الضاهر.

عرف السوريون ميشال عون جيداً ولذلك كان من سخريات القدر، أن يظهروا أكثر حرصاً على لبنان والمسيحيين فيه، من الذين كانوا في صدارة المشهد السياسي والحربي …

والشهادات التي يرويها شهود أحياء، وكثر، تكشف مثلاً وأساساً، أن دمشق في تلك الأيام، أي في أواخر ثمانينيات القرن الماضي خلصت إلى نتيجة مفادها (وأيضاً في ألطف الأوصاف الممكنة) أن الرجل المقصود والطموح “غير سوي” أو بالأحرى “غير متزن” ولا يمكن الركون إليه بسبب ذلك. وهذا يعني أن القيادة السورية يومها آثرت “التضحية “بالمكاسب السياسية الكبرى، التي كانت متوفرة أمامها لو قبلت جعل ذلك المرشح رئيسًا، وهي مكاسب حصلت على تعهدات في شأنها، مكتوبة وشفوية، وتذهب أبعد من مطالبها المعلنة في لبنان، وإلى حدّ عدم قدرة معدتها، ربما، على بلعها وهضمها! أو تبريرها أمام الأميركيين أولاً، ومسطرتهم التي رسموا بواسطتها حدود الدور والحضور السوريين في لبنان، قبل أن تأتي حرب تحرير الكويت لتنسف ذلك كلّه، وتثبّت تلزيم بلد الأرز إلى نظام البعث الأسدي.

والمعروف توثيقاً، أن الموقف الأميركي ذاك لم يكن نتيجة مشاركة الأسد الأب في حرب تحرير الكويت فقط، بل نتيجة “معاينة” تصرفات وأداء ميشال عون في “قصر الشعب”، والعروض التي قدمها إلى حافظ الأسد قبل أن يشطّ باتجاه بغداد وصدام حسين.

ملف تلك العروض المحفوظ في خزائن نظام الأسد، هو ما عادت إليه المنظومة الإيرانية – الأسدية منذ ما قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام ٢٠٠٥، وتصرفت على أساسه واستناداً إلى الدرر الموجودة فيه، وإلى العطايا التي يحتوي عليها، وإلى الالتزامات الخطيرة التي يتضمنها، والتي يتبيّن في هذه الأيام تحديداً، معناها وفحواها وتأثيراتها على الكيان الوطني اللبناني برمّته.

خاض الجنرال معارك عسكرية عدّة ولم ينتصر في واحدة منها. وخاض معارك سياسية عدّة ولم يربح الحرب… قاتل ضد اتفاق الطائف ليس لأنه “شلّح” صلاحيات أثيرة بل لإنه كان عنواناً من عناوين كثيرة، لإخراجه شخصياً من المشهد، ولو ارتضى المعنيون يومها بترئيسه لكان ذلك الاتفاق تحديداً ذروة أولى من ذرى إنجازاته التاريخية. خصوصاً وأن ما نصّ عليه من بنود إصلاحية، يبقى متواضعاً أمام ما نصّت عليه تعهداته للسوريين ومن بعدهم للإيرانيين! وفي ضوئها وعتمتها جيء به في سياق معادلة: الرئاسة في مقابل الجمهورية، وليس أقلّ من ذلك .

لكن… الجمهورية باقية والرئيس عابر. والمعركة الراهنة للفتك بالدستور من خلال الأعراف والممارسة تعويضاً عن استحالة المسّ بالنصوص المكتوبة، لن تكون نتيجتها مختلفة عن تلك المسجلة في السيرة الشخصية للجنرال عسكرياً والرئيس سياسياً… وأي سيرة تلك؟ وأي قدر؟ وأي بلاء نزل بلبنان وأهله؟

شارك المقال