لا وثيقة تعلو على “الوفاق الوطني”… الطائف هو الحل!

ياسين شبلي
ياسين شبلي

يصر اللبنانيون على تجربة المجرَّب ومواجهة مشكلاتهم المتنامية بإجترار وسائل وممارسات لطالما أودت بهم إلى المهالك. فبعد حوالي نصف قرن من إندلاع الحرب الأهلية المستمرة بوسائل وأساليب ووجوه مختلفة ومتغيرة، لا تزال المقاربات واحدة لا تتغير ولا تتبدل. فمثلاً لم يقتنع البعض منهم بعد بأن تحميل لبنان ما لا يطيق من تداعيات مشكلات المنطقة وتعقيداتها لن يؤدي إلا إلى الشقاق الداخلي والحروب الداخلية ترجمة لحروب خارجية لا ناقة لنا فيها ولا جمل. كما لم يقتنع البعض الآخر منهم بأن الدنيا تتغير والمعادلات تنقلب وأن ما كان يسري على اللبنانيين أيام الانتداب وبدايات عهد الاستقلال لم يعد صالحاً، وأنه كما هناك لغة خشبية لدى بعض اليسار والقوميين والاسلاميين من جهة، هناك أيضاً لغة خشبية لدى بعض اليمين المسيحي المتعصب والذي لا يرى في الصورة سوى نفسه وأفكاره الأقرب إلى الفاشية والعنصرية التي تخالف كل ما هو إنساني وأخلاقي ووطني، بحيث يعيش حالة إنكار للواقع الذي يحمل تغيرات دائمة سواء في الأفكار أو الوسائل والسبل المتَّبعة لعرض هذه الأفكار، فتراه يعيش في “جلباب” أجداده رافضاً التخلي عنه والتماشي مع روح العصر الحالي.

15 عاماً من الحروب المتعددة الأشكال والألوان كان يجب أن تكون كفيلة بتغيير الكثير من المفاهيم والآراء والمقاربات، 15 عاماً والجميع دفع الثمن غالياً من دمه وأعصابه وماله وشبابه وإستقراره، مسيحيين ومسلمين، يساريين ويمينيين، وطنيين وقوميين، 15 عاماً بكل مآسيها إنتهت بإتفاق سياسي برعاية دولية وعربية هو إتفاق الطائف الذي خُطَّ بلغة عربية فصيحة، لكن شاء البعض بنزقه وعناده وشبقه للسلطة أن يقف في طريق تنفيذه يومها، فجاءت المتغيرات الاقليمية لتقتلعه وتفرض قراءة جديدة للطائف، قراءة “عربية” ولكن بلكنة سورية مطعمة ببعض الفارسية.

على الرغم من ذلك كان هناك 15 عاماً من الاستقرار النسبي والاعمار بفضل بعض رجالات لبنان الذين إلتقطوا واستجابوا للَّحظة الدولية والاقليمية المناسبة فاغتنموها، وتحملوا ما تعجز عن حمله الجبال في سبيل الأمل بعودة لبنان إلى طبيعته، قبل أن تتغير الظروف مرة أخرى ويكتشف اللبنانيون أنهم إنما كانوا يبنون على رمال متحركة بفعل الحقد والشخصنة والتبعية، لتبدأ رحلة الإنهيار بالانقلاب على الطائف، فبات البعض يقرأه بلغة فارسية، وآخر بلغة “مسيحية مشرقية” يتلطى وراءها، وثالث بلغة طائفية مقيتة بفعل المزايدة بين الفرقاء السياسيين، وهكذا حتى نسوا لغته الأصلية ومن لم ينسَ حورب بالإحراج فالإخراج حتى وجد في الاعتكاف حلاً.

اليوم يعيش لبنان هذه الأجواء، فهو في حالة حرب بمشيئة “حزب الله” وحده خلافاً لرأي اللبنانيين أو أقله بقية الأطراف السياسية المفروض أنهم شركاؤه في الوطن والسلطة، وهو مصر على تحميل لبنان واللبنانيين وفي هذا الظرف العصيب من الإنهيار، تحميله ما لا يطيق ولا يقدر على حمله، يقابله أطراف آخرون على رأسهم “وريث” الجنرال الرافض الأول لتنفيذ إتفاق الطائف منذ 30 عاماً، يتبعه آخرون لا لشيء إلا لمحاولة كسب شعبوية طائفية فيجرَّهم مرة أخرى إلى ما لا يحمد عقباه، يجتمعون تحت سقف مرجعيتهم الدينية – التي سبق وانتهِكَت حرمتها بداية الطائف – ليحيكوا وثيقة طائفية جديدة، في حين أن المطلوب هو الثبات والدفاع عن وثيقة الوفاق الوطني الممثلة بإتفاق الطائف والتي باتت جزءاً لا يتجزأ من الدستور، وذلك بالعودة إلى قراءتها بلغتها العربية الأصلية بعيداً عن لغة التقسيم والفديرالية والمشاريع والمخططات البالية التي كانت في أساس إنهيار البلد، مثلها مثل المشاريع الانتحارية الأخرى التي إنتهجها البعض سابقاً في المقابل وينتهجها اليوم “حزب الله”.

مواجهة الخطأ والمشاريع الانتحارية والتفرد لا تكون بخطأ مماثل أو مشاريع إنتحارية مقابلة، بل بجبهة وطنية عريضة تقوم على الاعتدال والوسطية والتوافق البنَّاء والإيجابي الذي تمثله وثيقة الوفاق الوطني والدستور اللبناني مهما غلت التضحيات، وهذا الأمر يستلزم الخروج من الزواريب الطائفية والتقوقع السلبي ومشاريع “الطلاق” التي يسعى إليها البعض، فكلها تجارب سلبية جرَّبها اللبنانيون، وكانت أقلها سلبية تجربة إتفاق الطائف ولو منقوصاً للأسف، فلماذا لا نحاول أن نقرأ الطائف بلغته العربية الفصيحة والنضال في سبيل تطبيقه السليم بعيداً عن قراءة فارسية من هنا وأخرى أميركية أو فرنسية من هناك، فلنحاول قراءته ولو لمرة واحدة قراءة لبنانية جامعة لا قراءات طائفية ومذهبية قاتلة. عودوا إلى الطائف تعودون إلى لبنان، ويعود لبنان إليكم وبكم.

شارك المقال