أُدين بشدة!

عاصم عبد الرحمن

ما إن تحلُّ كوارث طبيعية أو تقع أحداث دامية أو تُرتكب جرائم إرهابية أو تنفجر أزمات سياسية أو تقام مناسبات وطنية سواء في الدول الشقيقة والصديقة أو حتى تلك المتنازعة، تنشغل الدوائر الرسمية لعواصم الدول بإعداد بيانات الإدانة والاستنكار والشجب والترحيب بعبارات منمقة ذات رسائل سياسية هادفة. ولكن أمام هول الكوارث على اختلاف أشكالها وحيثياتها، هل تغني الإدانة وتسمن مصطلحات التأييد من جوع الحاجة إلى الأفعال؟

ندين بشدة قتل المدنيين، نعبّر عن عميق حزننا حيال وفاة الرئيس، نشجب الإعتداء على الصحافيين، نرفض الاجراءات التعسفية المتخذة، نستنكر بأشد العبارات العمل الإرهابي، نرفض التعرض للمتظاهرين، نعارض تغطية السلطات للمرتكبين، ندعو إلى ضبط النفس، ندعم الجهود الرامية الى إنهاء الأزمة، نشجع الأطراف كافة على الحوار، نرحب بتشكيل الحكومة، تعازينا الحارة حكومةً وشعباً، تهانينا القلبية… عباراتٌ ديبلوماسية خَطابية تتمثل في إنجاز أقوال فعلية أي أنها تؤدي وظيفة تواصلية بمجرد الإدلاء بها.

لا شك في أن الأفعال الكلامية كالإدانة والشجب والدعم والتشجيع والترحيب والتعازي والتهاني وغيرها من المصطلحات التي يراد من خلالها إيصال رسائل سياسية محددة بين الدول والمؤسسات والأطراف المتحالفة والمتنازعة على السواء، وهي نظرية تعود إلى العالِم اللغوي الانكليزي جون وستن الذي جعل من وظيفة اللغة تغيير الواقع لا تمثيله عبر النطق ببعض الصيغ والتراكيب، تتوسل هذه التصريحات الديبلوماسية بمجموعة من العبارات التي تهدف إلى القيام بدور ما ضمن سياق العلاقات الدولية. ولا تكمن قيمة تلك البيانات في معناها اللغوي الظاهر، وإنما في قدرتها على التعبير الملطف وحتى الخشبي الجامد عن قضية ما، لا سيما الخلافية بين الدول والحساسيات والمحظورات القائمة بينها.

ويشهد الخطاب الديبلوماسي خصوصاً منذ سبعينيات القرن الماضي، توجهاً نحو المفاهيم الكونية والمبادئ الدولية الأكثر انتشاراً، مثل: طبقاً للقانون الدولي، نتابع عن كثب، نعبّر عن قلقنا، وهي عبارات باتت بمتناول مختلف الناطقين الرسميين حول العالم على اختلاف اللغات والثقافات والمحاور. لعل التنديد بهجوم إرهابي خير مثال على خشبية اللغة الديبلوماسية والخطاب التضامني، إذ أصبحت مجرد مادة جاهزة للاستخدام في سبيل قضاء واجب ديبلوماسي وحاجة سياسية في سياق العلاقات بين الدول على الصعيدين الحكومي والشعبي.

عند ارتكاب الفظائع من جانب الدول بحق بعض الجماعات والشعوب، تميل الدول والمنظمات غير الحكومية إلى التعبير عن التعاطف مع الضحايا وكشف المرتكبين عبر عبارات تنديد وشجب أو ما يُعرف بـ “التشهير السياسي” وهي استراتيجية شائعة لإنفاذ القانون الدولي وتعزيز المعايير والقواعد لا سيما تلك المتعلقة بحقوق الإنسان، وهو ما أشارت إليه الباحثة النروجية في العلوم السياسية ناديا روهان مارتنسن، إذ اعتبرت أن سياسة التشهير كأداة سياسية وديبلوماسية أحياناً تؤدي إلى تحقيق التغيير في سلوك الدول في ما يتعلق بحقوق الإنسان والقانون الدولي من خلال ممارسة الضغط.

وتقول مارتنسن: “إن المجتمع الدولي يعرف جيداً أن كل الدول تهدف إلى تعزيز مصالحها الوطنية ورفع مكانتها بين الدول، والسياسة الدولية تبقى صراعاً على القوة والمكانة التي هي شكل من أشكال المصلحة الدولية، وعليه تلجأ الدول إلى تحسين مكانتها بشتى الأشكال الممكنة، من بينها استخدام القوة الناعمة للديبلوماسية أي شجب الاعتداءات والتنديد بالفظائع”.

وتخلص مارتنسن إلى اعتبار أن سياسة التشهير عبر الشجب والتنديد إما أن تسفر عن تغيير في سياسات الدولة الباغية وإن بشروط معينة، وإما ألا تسفر عن أي شيء لكنها تخدم الدولة التي تشجب وتدين بالإضافة إلى إضعاف مؤقت لمكانة الدولة المشجوبة والمدانة دولياً وإن بدرجات متفاوتة.

إن الكثير من الدول والمنظمات يلجأ إلى خيار الشجب والإدانة إما بفعل الضغوط التي تمارسها الشعوب وتطالبها باتخاذ مواقف قوية، وإما لتبييض صفحتها أمام الرأي العام والدول الأخرى المطالِبة عادةً بسلوك إجراءات أكثر قوة من الشجب والإدانة. وتبقى إدانة جنوب إفريقيا للكيان الاسرائيلي وجره إلى محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني الأكثر فعالية وقوة في لغة الشجب والتنديد في عصرنا الحالي.

كلمات البحث
شارك المقال