وماذا لو كان جاداً حقاً؟

اكرم البني
اكرم البني

والسؤال يتعلق بموقف الرئيس الجديد للسلطة الإيرانية، إبراهيم رئيسي، الذي طالب بخروج كافة القوات الأجنبية من سوريا على وجه السرعة، هل هو جاد فعلاً، أم الأمر مجرد مزحة ورصف كلام؟

فإن تكن هذه المطالبة جدية، فهي تعني بداهة إنهاء الوجود العسكري للشيطان الأكبر الأميركي في شرق سوريا، خاصة وأنه يعتبر بنظر طهران حجر عثرة في جعل ما سمي الهلال الشيعي أمراً ممكناً، ويشكل عائقاً أمام سهولة انتقال الميليشيا والأسلحة عبر الحدود الإيرانية والعراقية والسورية، الأمر الذي يستدعي “على وجه السرعة” ممارسة أقصى الضغوط ومختلف وسائل العنف والإكراه لإجبار الأميركيين على الانسحاب.. فهل تتجرأ السلطة الإيرانية بما تعانيه من مشاكل واضطرابات داخلية وفي ظل تنامي الاعتراض والرفض ضد تمددها في المشرق العربي، على فتح معركة لطرد الأميركيين من سوريا، ربما استتباعاً لمعارك وضغوط أعوانها لإخراجهم من العراق، حتى لو عمّقت هذه الخطوة غرق حكام طهران في المستنقعين السوري والعراقي وتكبيد شعبهم مزيداً من الأعباء الناجمة عن تداعيات أزمات البلدين المتفاقمة.

جدية تلك المطالبة تعني بلا شك إزاحة القوات التركية التي تحتل مساحة واسعة من الأرض السورية في الشمال وعلى طول الشريط الحدودي، ما يستدعي فتح معركة مع جبهة النصرة وحلفائها المتمركزين في مدينة إدلب وريفها وبعض أرياف حلب، هذا عدا عن ترجيح اتساع تلك المعركة لتشمل مواجهة مباشرة مع التواجد العسكري التركي.. فهل تبدو حكومة طهران مستعدة لخوض معركة طويلة الأمد ومكلفة مع جماعات التطرف الإسلاموي ومن ورائهم تركيا، مما يهددها بخسارة الدور الخفي والمتواطئ لحكومة أنقرة التي دأبت على مساعدتها في تخفيف وطأة الحصار الاقتصادي وتمرير شحنات من النفط عبر أراضيها؟ وتالياً هل هي مستعدة لخسارة ورقة التطرف الإسلاموي التي طالما لعبت بها للتأثير في صراعات المنطقة، وكلنا يتذكر تنسيق طهران الفريد مع النظام السوري، لتمكين الجماعات الجهادية من تصعيد نشاطاتها ضد القوات الأميركية في العراق لإجبار “البيت الأبيض” على اتخاذ قرار الانسحاب من ذاك البلد وتركه لقمة سائغة لنفوذ الحرس الثوري، كما لا تغيب عن البال الشبهات التي أثيرت حول دور طهران والحرس الثوري في فسح المجال لتنامي وزن داعش وتمدده في العراق وسوريا.

في المقابل، ألا تستدعي هذه المطالبة إن كانت جدية، التعامل من منظور مختلف مع القوات الروسية المتواجدة في سوريا، خاصة أنها انجزت مهمتها العسكرية في تثبيت نظام الحكم القائم؟ وهل آن الأوان كي تحرك سلطة طهران أدواتها ومطامعها كي تتفرد بتقرير المصير السوري والتحكم بمقدراته وثرواته؟

صحيح أن ثمة مؤشرات عديدة تظهر تنامي الخلافات بين موسكو وطهران حول ترتيبات البيت السوري مع تراجع المعارك وبدء موسم القطاف، وصحيح أن ثمة تصريحات حادة لقيادة الكرملين طالبت غير مرة بانسحاب كافة القوات الأجنبية من سوريا، وبدا المقصود بأحد وجوهها الوجود العسكري الإيراني، وقد ردت حكومة طهران على ذلك برفض صريح وبعبارة تحدٍ: بأن لا أحد يمكنه إزاحتها من المشهد السوري، لكن الصحيح أيضاً أن لا مصلحة لإيران اليوم في إخراج القوات الروسية من الميدان السوري، فهي لا تزال بحاجة لها كغطاء دولي ما دام دعمها العسكري وتدخل ميليشياتها في سوريا يفتقد للشرعية الأممية، كما أنها تتحسب جيداً من أن يفضي غياب الدور الروسي إلى ترك حرسها الثوري والميليشيا الموالية لها وحيدة ومكشوفة أمام الضربات الإسرائيلية والأميركية، ويزيد الأمر تعقيداً وجود مراكز قوى مهمة موالية لروسيا داخل التركيبة السلطوية الحاكمة، إضافة إلى العجز المزمن لإيران عن لعب دور ناجع في إعادة الإعمار وهي الغارقة أصلاً في أزماتها المالية والاقتصادية.

أخيراً، يمكن للمرء، أن يضم مجازاً لهذه المطالبة، إذا أراد أخذها على محمل الجد، الحرس الثوري والميليشيا التي تدور في فلك طهران وفي مقدمها حزب الله اللبناني، بصفتهم جزءاً من القوات الأجنبية في سوريا، مستنداً في موقفه، ربما تخيلاً أو هذياناً، إلى أن قادة طهران توصلوا بعد مراجعة حصاد سياستهم الخارجية المزري والمرير إلى رؤية جديدة يحدوها الكف عن أذى الغير والامتثال للقواعد الأممية التي أرساها المجتمع الدولي، بما يعني تبلور دوافع خفية لدى الرئيس الإيراني الجديد جوهرها الكف عن التسعير المذهبي لتصدير ثورته الإسلاموية وعن الابتزاز والأذى لتوسيع نفوذه الإقليمي، كي يتفرغ لمعالجة الأزمات المتراكبة التي تكابدها بلاده، داخلياً وخارجياً.

لكن، هل يعقل هذا الاستنتاج، أم يدرج في إطار المزاح؟ فأنّى لسلطة أن تبدل نهجها وقد أصبح ديدنها الاستمرار في تصدير ما تسميه ثورتها الإسلاموية، وتتفنن بتجديد حضورها ونفوذها عبر التهييج الطائفي وممارسة أشد وسائل الفتك والتنكيل؟ بل، ماذا يمكن أن يقال عن مفاخرتها اليوم بما تقوم به من عمليات بلطجة ضد السفن الملاحية في مياه الخليج العربي، وعن استهتارها المخزي بحياة اللبنانيين والفلسطينيين ومصائرهم حين تستسهل زجهم، وقت تشاء، في معارك مكلفة مع إسرائيل؟ ويبقى المعقول اعتبار هذه المطالبة صرخة في وادٍ لسلطة مأزومة تحاول الهروب الى الأمام من المعالجة الحقيقية لمشاكلها المتفاقمة، أما المزاح الثقيل فحين لا تجد سلطة طهران في أعوانها وميليشياتها التي تعيث تشويهاً وفساداً في مختلف المناطق السورية، قوات أجنبية، بل تعتبرهم من “عظام الرقبة” وجزءاً عضوياً من تركيبة المجتمع السوري!

شارك المقال