الثورة الطلابية العالمية… إلى أين؟

عاصم عبد الرحمن

وعادت إلى الواجهة مقولة الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي “زنقة زنقة دار دار” على وقع انتقال التظاهرات الطلابية المؤيدة للشعب الفلسطيني التي انطلقت في أهم الجامعات الأميركية كجامعة كولومبيا في نيويورك حيث يتواجد الثقل اليهودي، جورج واشنطن، هارفارد، ييل، كاليفورنيا، سيتي كولدج وغيرها، كالنار في الهشيم إلى جامعات في دول أخرى مثل بريطانيا وكندا وأستراليا وفرنسا وماليزيا وتركيا ولبنان والأردن واليمن وموريتانيا والكويت وتونس وغيرها. فبالنظر إلى تجارب تاريخية سابقة بإحداث تغيير نشده طلاب جامعيون خصوصاً في الولايات المتحدة، هل تؤتي ثورة الشباب الجامعي اليوم ثمارها في غزة؟

مَنْ هم المتظاهرون؟

طلاب وأساتذة جامعيون مؤيدون للشعب الفلسطيني وقضيته ينحدرون من خلفيات إسلامية ويهودية ومسيحية ومن مجموعات تنظيمية متعددة أبرزها “طلاب من أجل العدالة في فلسطين” بالاضافة إلى “الصوت اليهودي من أجل السلام” وهما مجموعتان مناهضتان للصهيونية والاحتلال العسكري الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية، تأسستا قبل 20 عاماً، وتعتبران العنصر الرئيس في تنظيم الاحتجاجات وامتدادها إلى جامعات أخرى بالنظر إلى امتلاكها فروعاً عدة في الولايات المتحدة.

مجموعة نزع الفصل العنصري في جامعة كولومبيا وهي تحالف يضم أكثر من 100 مجموعة طلابية تأسست عام 2016 ويعتبر الطالب الفلسطيني محمود خليل أحد أبرز وجوهها.

من هناك انطلقت المظاهرات المؤيدة للقضية الفلسطينية دعماً للشعب الفلسطيني الذي يرزح تحت ركام الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، فثار طلاب جامعيون وأساتذة وأكاديميون حول العالم أبرزهم في السوربون الفرنسية والجامعة الأميركية في بيروت وغيرهما.

كيف اشتعلت التظاهرات؟

منذ 7 تشرين الأول 2023 تتواصل الاحتجاجات المطالبة بإنهاء العدوان الصهيوني على غزة ووقف الدعم الأميركي لاسرائيل خصوصاً بين الفئات الشبابية والطلابية والأكاديمية التي دعت الادارات الجامعية إلى وقف التعاون مع الشركات التي تدعم إسرائيل ومنها شركات الأسلحة، وهو ما اعتبرته كيانات يهودية خطاباً مناهضاً للكيان الاسرائيلي يغذي الكراهية ويدعو إلى العنف. وفي 17 نيسان 2024 قامت مجموعة طلابية في جامعة كولومبيا بنصب خيامها احتجاجاً على الإبادة الجماعية ضد غزة.

وحول مزاعم معاداة السامية في الحرم الجامعي، استدعت لجنة التعليم والقوى العاملة في مجلس النواب الأميركي رئيسة جامعة كولومبيا ذات الأصول المصرية نعمت شفيق للإدلاء بشهادتها التي اتهمت فيها الطلاب بالاعتداء على الممتلكات مهددة إياهم بتبعات ستلحق بهم نتيجة انتهاكهم للقواعد بحسب زعمها. وعلى خلفية استدعائها شرطة نيويورك للتدخل وفض الاعتصام بحيث جرى اعتقال العشرات وفق مظاهر حطمت مختلف أشكال الديموقراطية الأميركية المزعومة، اشتعلت الاحتجاجات في مختلف الكليات في أنحاء الولايات المتحدة، وتصاعدت حدة الأحداث وتوالت الاعتقالات بحق طلاب وأساتذة على وقع إفراط الشرطة الأميركية في التعامل مع المتظاهرين ما دفع بمجموعة مؤيدة لفلسطين الى التقدم بشكوى تتعلق بالحقوق المدنية ضد جامعة كولومبيا لسماحها بدخول الشرطة إلى الحرم الجامعي، شكوىً دفعت بجامعات أخرى للجوء إلى التفاوض مع المحتجين في حين اختارت بعض الجامعات سلوك نهج القوة والعنف لمكافحة معاداة السامية وفق زعمها.

ماذا يريد المتظاهرون؟

تختلف مطالب الطلاب والأساتذة المتظاهرين من جامعة إلى أخرى، لكنها تلتقي حول الوقف الدائم لإطلاق النار في غزة وإنهاء المساعدات العسكرية الأميركية لاسرائيل خصوصاً بعد إقرار الكونغرس حزمة مساعدات عسكرية بقيمة 26 مليار دولار الشهر الفائت. ومن المطالب البارزة أيضاً سحب الجامعات التي تشهد الاحتجاجات استثماراتها من شركات توريد الأسلحة وأي شركة تستفيد من الحرب على غزة. كما يطالب المتظاهرون بالعفو عن الطلاب والأساتذة الذين تعرضوا لاجراءات تأديبية منها الطرد.

ومن بين المطالب التي يسعى المحتجون إلى تحقيقها:

  • التوقف عن قبول الأموال من تل أبيب للأبحاث التي تدعم الجهود العسكرية الاسرائيلية.
  • الشفافية بشأن الأموال التي يتم تلقيها من إسرائيل والمجالات التي تستخدم فيها.

تجارب تاريخية

إنَّ الثورة الطلابية التي تجتاح الجامعات الأميركية وألهمت طلاباً حول العالم ليست الحدث الثوري الأول في التاريخ الأميركي، بل هناك شواهد ماثلة على وقائع مماثلة قادت إلى تغيير جذري في كثير منها وأخرى تركت آثاراً عميقة في المجتمعات والسياسات الوطنية والدولية.

في شباط 1960 بدأت اعتصامات غرينسبورو التي أطلقها أربعة طلاب أميركيين من أصل إفريقي في جامعة نورث كارولاينا الزراعية والتقنية احتجاجاً على فصل مقاعد الغداء داخل مقصف وولورث في مدينة غرينسبورو، وأدت تلك التظاهرات التي توسعت لتطال المدن والولايات المجاورة إلى إلغاء التفرقة في متجر وولورث في غرينسبورو.

في ربيع العام 1968 اندلعت احتجاجات طلابية على أثر سيطرة أكثر من ألف طالب في جامعة هوارد حيث كانت تدرس غالبية من أصول إفريقية على المبنى الاداري للمؤسسة، وطالب المتظاهرون باستقالة رئيس الجامعة وتركيز المناهج التعليمية على التقاطعات الفكرية والثقافية المشتركة بين الأميركيين والأفارقة وإنشاء نظام قضائي يشمل الطلاب الأفارقة وكان لهم ما أرادوا.

في العام 1968 أدت المظاهرات الطلابية المناهضة للحرب والتجنيد الإجباري في فيتنام إلى تحول كبير في الرأي العام الأميركي، فانتقلت الغالبية الداعمة لجونسون إلى غالبية مؤيدة للمرشحَيْن الجمهوريَيْن ريتشارد نيكسون وجورج والاس في الانتخابات الرئاسية.

في 9 نيسان 1969 احتل طلاب قاعة جامعة هارفارد وأخرجوا جميع إداريي المؤسسة من المبنى وأدى تدخل الشرطة إلى طرد المحتجين، واعتقال أكثر من 300. لكن تلك الاعتصامات أدت إلى إحداث تغييرات كان أبرزها إنشاء قسم للدراسات الإفريقية الأميركية.

في 7 أيار 1970 في جامعة كينت أوهايو، قتلت قوات الأمن أربعة طلاب وجرحت تسعة آخرين، ما أدى إلى إضراب شامل للطلاب، وتصاعدت الاحتجاجات بحدة فجذبت اهتمام الإعلام الوطني بشكل أكبر نحو الحركة المناهضة للحرب في فيتنام. وكان لتلك الحادثة تأثير عميق إذ أطلقت شرارة إضراب طلابي على مستوى البلاد أجبر المئات من الكليات والجامعات على الإغلاق. وأشار حينها أحد كبار مساعدي الرئيس نيكسون إلى أن حادثة إطلاق النار أثرت بصورة مباشرة على السياسة الوطنية وبدأ الانزلاق نحو “فضيحة ووترغيت” التي دمرت إدارته. وأصبحت تلك الحادثة رمزاً للانقسامات السياسية والاجتماعية العميقة التي شهدتها البلاد بشدة خلال حقبة حرب فيتنام.

في عام 1985 تجمع آلاف الطلاب في ساحة سبرول في حرم جامعة كاليفورنيا بيركلي احتجاجاً على العلاقات التجارية للجامعة مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وأدت تلك الاحتجاجات إلى سحب استثمارات قيمتها أكثر من مليار دولار من حكومة الفصل العنصري في تموز 1986.

في 17 آذار 1999 بدأ طلاب جامعة ميشيغان لي بولينغر اعتصاماً للاحتجاج على ظروف العمل السيئة في المصانع التي تتعامل مع الجامعة، والتي كانت تتصدر الجامعات الأميركية من حيث حجم مبيعات الملابس والسلع المرخصة، ما يعني أنها كانت تتحمل مسؤولية كبيرة عن ضمان ظروف العمل داخل تلك المصانع. وأدت تلك الاحتجاجات إلى تشكيل لجنة استشارية لمكافحة العمل القسري في العام نفسه.

في عام 2014 وتضامناً مع حركة “حياة السود مهمة” ورداً على حوادث عنف الشرطة ضد الأميركيين من أصل إفريقي، شارك طلاب كلية الطب بجامعة هارفارد في احتجاج رمزي يسمى (die – in) حيث استلقى المشاركون على الأرض وتظاهروا بأنهم موتى، وذلك للاحتجاج على قرارين قضائيين بعدم توجيه اتهامات جنائية ضد ضباط شرطة متورطين في حادثتي قتل مثيرتين للجدل بحق رجلين أميركيين من أصل إفريقي، وأثارت تلك الحادثتان غضباً واسعاً في المجتمع الأميركي فأججت الاحتجاجات والتنديد بعنف الشرطة والتمييز العنصري الممنهج ضد الأميركيين من أصول إفريقية.

اطلبوا العلم ولو في غزة

وكأنَّ الجامعات الأميركية انتقلت إلى فلسطين، فعلى وقع ارتفاع حصيلة المتظاهرين الموقوفين بين طلاب وأساتذة إلى أكثر من 1400، ارتفعت حدة التنديد الأميركي شعبياً وسياسياً وإعلامياً، واقتحم طلاب مؤيدون لاسرائيل الاحتجاجات منددين بما زعموه معاداة السامية على الرغم من وجود أساتذة وطلاب يهود في صفوف المحتجين، كما نددوا بإطلاق المحتجين اسم هند على قاعة هاميلتون في جامعة كولومبيا تيمناً بالطفلة الفلسطينية هند رجب التي أثارت الرأي العام العالمي بطلبها النجدة من الاسعاف ليجدوها مقتولة إلى جانب المسعفين في غزة.

ومن المظاهر الرمزية ذات الدلالات الانسانية الكبيرة التي ارتبطت بين القضية الفلسطينية وطلاب حقوق الانسان، قيام متظاهرين بلف عنق تمثال أول رئيس أميركي في جامعة جورج واشنطن التي تحمل اسمه بالعلم الفلسطيني.

الصراع الانتخابي بين الجمهوريين والديموقراطيين لم يمنعهم من الاتفاق على التنديد بثورة الطلاب الأميركية، فقد اعتبر البيت الأبيض أن عدداً صغيراً من الطلاب يتسبب في تعطيل الجامعات، مندداً بما ادعى أنه تزايد خطاب الكراهية ومعاداة السامية.

وقال رئيس مجلس النواب الجمهوري مايك جونسون الذي دعا رئيسة جامعة كولومبيا إلى الاستقالة بالنظر إلى الفشل في وقف معاداة السامية في الحرم الجامعي، إنه “يفكر في سحب الأموال الفديرالية من الكليات التي تنظم احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين”، وأضاف: “سنحاسب الجامعات على فشلها في حماية الطلبة اليهود في الحرم الجامعي”.

كما قال المرشح الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترامب: “إنَّ معاملة المتظاهرين المؤيدين للفلسطنيين في جامعة كولومبيا يعدُّ أكثر تساهلاً من مثيري الشغب الذين اقتحموا مبنى الكابيتول عام 2021”.

إعلامياً، استخدم بعض رواد وسائل التواصل الاجتماعي مصطلح “تمرد” للإشارة إلى السيطرة على مبنى هاميلتون هاوس في جامعة كولومبيا، وهو مصطلح يستخدم قانونياً لوصف انتفاضة عنيفة واحتجاج ينطوي على محاولات لتفكيك السلطات المحلية. وأعادت قناة “فوكس نيوز” استخدام مصطلح تمرد لوصف الاحتجاجات الطلابية.

هل يتحقق شيء؟

أول الغيث المطلبي الذي حققه طلاب محتجون هو تعهد جامعة براون في ولاية رود آيلاند بالتصويت على سحب الاستثمارات من الشركات المرتبطة بالحرب الإسرائيلية. خطوة إنما تؤشر إلى تكرار نجاح تجارب طلابية في تحقيق ما تعجز عنه الآلات العسكرية والديبلوماسيات الدولية والحبل الإنجازي على الجرار الاحتجاجي.

في هذا السياق، يقول رئيس قسم الأبحاث والمعلومات في “مؤسسة القدس الدولية” الدكتور هشام يعقوب (فلسطين) لـ “لبنان الكبير”: “أهم ما في الحراك الطلابي أنه عبَّر عن مرحلة جديدة من الوعي الشعبي العالمي الذي سقطت أمامه الأقنعة وظهرت بوضوح وحشية الكيان الصهيوني وكذلك وحشية الحكومات الغربية خصوصاً الأميركية التي دعمته وغطت جرائمه طوال العقود الماضية”.

ويضيف يعقوب: “هذا الحراك يشكل تهديداً استراتيجياً للاحتلال الصهيوني لأنه أكد أن زمن ترويج التضليل والكذب الصهيوني على العالم ولّى، كما ولَّى زمن تصوير هذا الكيان على أنه الضحية والمظلوم”. ويعتبر يعقوب أن “من مكاسب هذا الحراك أنه ضرب الرواية الصهيونية التي هيمنت على الفضاء السياسي والثقافي الغربي منذ أكثر من مئة عام، وأظهر الحقيقة العنصرية والاحتلالية والاستعمارية للكيان الصهيوني”.

أما المتخصص في السياسات العربية الصحافي حامد فتحي (مصر) فيقول لـ”لبنان الكبير”: “تنبع أهمية الحراك الطلابي في الجامعات الأميركية الذي يُطالب بوقف الحرب على غزة ويدعم الحقوق الفلسطينية من اعتبارات عدة:

1- موقع هذا الحراك في قلب جامعات الدولة الداعمة الأولى لإسرائيل وحربها الدموية على قطاع غزة.

2- الحراك يمثّل ضغوطاً كبيرة على الادارة الأميركية الداعمة لاسرائيل، ويعري زيف الشعارات التي ترفعها عن حقوق الانسان والديموقراطية، ويكشف عن ازدواجية تلك الادارة التي تتعاطى بمقاربات متناقضة في قضايا عدة متشابهة كالحرب في أوكرانيا وغزة والسودان.

3- الحراك يمثّل خرقاً كبيراً في جدار تشكيل الرأي العام الأميركي الذي طالما كان محصناً ضد أي انتقاد لجرائم إسرائيل، ولهذا فالحراك الطلابي يعتبر بمثابة خطاب سياسي يستطيع الوصول إلى الرأي العام الأميركي الذي يجد نفسه في اختبار حقيقي للقيم والحريات التي يحميها الدستور الأميركي، في حدث يشبه الازدواجية الأميركية القديمة ضد حرية الأقلية الأفروأميركية في التعبير عن حقوقها.

4- يشكل هذا الحراك في قلب الولايات المتحدة رسالة للعالم أجمع تكشف عن الجرائم الاسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، وتحمّل الحكومات الغربية المسؤولية على قدم المساواة مع إسرائيل. علماً أنّ العالم يتأثر بما يحدث في مراكز القوى الدولية في الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة.

5- هذا الحراك بحسب المتابعين يمهد لمطالبات أكثر وضوحاً وتتعلق بمراجعة التعاون العلمي والتمويل والاستثمار بين الجامعات الأميركية والمؤسسات الاسرائيلية.

6- هذا الحراك يمثّل عامل ضغط مهم إلى جانب الضغوط الاقليمية والدولية والانسانية لمنع اجتياح الاحتلال الاسرائيلي مدينة رفح الفلسطينية. وكونه يحدث كما الحرب مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية، فإن تأثيره المحتمل على التصويت سيجعل إدارة جو بايدن حريصة أكثر على الموازنة بين الجموح الاسرائيلي ومصالحها.

7- قد يحقق هذا الحراك أهدافاً أكبر على المدى المتوسط إذا ما تحول إلى رمز ومثال يمكن أن يقتدي به طلبة الجامعات في دول العالم للمطالبة بالعدالة ودعم القضية الفلسطينية والتصدي للانحرافات الكبرى التي يعيشها عالمنا اليوم.

صدقت الشعارات القائلة بأن الشباب هم أعمدة الأوطان وبناة المستقبل، ومن على مقاعدهم الدراسية التي لم تعد تتسع لطموحاتهم ما لم تتطابق الدروس النظرية مع التجارب الواقعية خصوصاً في ما يتعلق بحقوق الإنسان. وما تخشاه الصهيونية اليوم هو أن هؤلاء الطلاب الثائرين سيغدون النخب السياسية وقادة الدول وصنّاع القرارات، فقد أثبتوا أنهم أجيال أكثر ذكاءً ووعياً وشجاعة ممن سبقوهم، لم يكتفوا بما قيل لهم بل بحثوا عن الحقيقة التي يبدو أنها جعلتهم يقرنون قيمة شهاداتهم العلمية بإعطاء كل ذي حق حقه وفلسطين خير شهادة لا بل الشهادة الأعظم للتفريق بين الحق والباطل وما ومَنْ حولهما.

شارك المقال