7 أيار: جرح بيروت المفتوح!

جورج حايك
جورج حايك

لا يزال الجرح مفتوحاً في بيروت، والهدف من هذا المقال ليس نكء الجراح، لأن كل شيء في لبنان عموماً وبيروت خصوصاً لم يشفَ من عملية 7 أيار 2008، بصرف النظر عن الاعتبارات السياسية والمواقف والقرارات عشيّة هذا اليوم، فثمة أماكن في بيروت لا تزال شاهدة على فريق مسلّح، زعم أنه مقاومة ضد العدو الاسرائيلي، إلا أنه فجأة وقع في التجربة، وبات سلاحه موجّهاً إلى أهالي بيروت العزّل، وبدا كل شيء محضّراً: الخطة، المقاتلون، السلاح، والمقرات التي استهدفها والشخصيات التي حاصرها، وهنا بيت القصيد!

مهما كانت الاختلافات السياسية، لا يمكن لأهالي بيروت أن ينسوا، قد يغفرون، إلا أن بصمات الحقد والكراهية والعنف تركت ندوباً وجراحاً، وهنا جولة على أماكن لها رمزيّتها تخبرنا عما حصل في ذاك اليوم المشؤوم، لعل مرجعية هؤلاء التي اعتبرته يوماً مجيداً، تعي فداحة ما ارتكبته وكررته في بعض المناطق اللبنانية، فتتعظ وتدرك خطورة الاحتكام إلى السلاح في المستقبل.

نبدأ بطريق المطار التي باتت منذ 7 أيار تحت سيطرة “حزب الله”، ففي صباح ذاك اليوم خرج مسلحوه من مربعاتهم الأمنية في الضاحية الجنوبية المجاورة، لقطع الطريق المؤدية إلى المطار بالأطر المشتعلة، وحتماً لا يزال هذا المرفق الحيوي أكثر من أي وقت آخر مقراً خاضعاً لرقابة “الحزب” وضحية لبيئته التي غالباً ما تطلق النار عشوائياً مشكّلة خطراً حقيقياً على الطائرات المدنيّة وحركة الملاحة الجويّة. من المؤكد أن كثراً من المسافرين الذين كانوا يعبرون طريق المطار في 7 أيار لم يعرفوا أن “الحزب” قرر الانقلاب على قرارات الحكومة اللبنانية بشأن شبكة الاتصالات الهاتفية التي أقامها بطريقة غير شرعية وقانونية على امتداد الأراضي اللبنانية، وفوجئوا بأن شعاره أصبح “السلاح لحماية السلاح”.

نمرّ على مكتب تيار “المستقبل” في النويري وكل مكاتبه في بيروت، اعتادت العمل السياسي والاجتماعي وحريّة التعبير، وغالباً ما لجأ اليها أهالي بيروت من كل الطوائف للحصول على مساعدة أو الحوار، وهذا ما آمن به الرئيس الشهيد رفيق الحريري وبعده نجله الرئيس سعد، لكن في ذاك اليوم، لم يعد للحوار مكان، ولا لحريّة التعبير، ومن دون أي مقاومة من أنصار “المستقبل”، خلافاً لما روّجت له وسائل إعلام “الحزب”، سقطت الواحدة تلو الأخرى في قبضته خلال 4 ساعات.

طبعاً، نعبر اليوم أمام السراي الحكومي، كل شيء تغيّر، لا الشكل حتماً، إنما مساحة الحرية، صحيح أنه في 7 أيار كان محاصراً بالمعتصمين في رياض الصلح ومسلحي “الحزب”، إلا أن مساحة السيادة والحرية فيه كانت كبيرة، فالرئيس فؤاد السنيورة بالتنسيق مع الرئيس سعد الحريري، تمسّك بموقفه وموقعه على رأس الحكومة، متحملاً مسؤولية ما صدر عنها لأن رئاسة الحكومة كانت تمثّل آخر موقع سيادي في السلطة لا يجوز التخلي عنها، ومجرد الاستقالة يعني تشريع الانقلاب.

ليس بعيداً عن السراي الحكومي، لا يزال قصر الحريري في قريطم شامخاً متعالياً فوق كل محاولات التطويع، لا شك في أن سيّد البيت غائب، لكن رمزيّة المكان تقول الكثير من دون كلام. في 7 أيار، حلّ الظلام، وبعده منتصف الليل، ولم تُطفأ الأنوار في القصر، الحريري لم ينم، إلا أن الجميع لاحظ هدوءه، على الرغم من أن قذيفة آر.بي.جي. أطلقت في اليوم التالي باتجاه سور القصر، فكان جواب الحريري: “لن أخرج من القصر إلا شهيداً.. شهيداً.. شهيداً”.

مقر آخر يعتبر من رموز الصمود في 7 أيار، كان منزل الزعيم وليد جنبلاط في كليمنصو، على الرغم من كل التحذيرات والتهديدات لم ينتقل من بيروت إلى الجبل، بل قرر البقاء، وكما المنزل هادئ اليوم، كان في 7 أيار هادئاً ولم يعكّره في اليومين الأولين من الأحداث سوى بعض “رصاص الابتهاج” لأبطال “المقاومة” يروّعون بيروت ويستعرضون فائض قوتهم على بيوت الشخصيات السياسية المعارضة من دون جدوى.

كان أهالي بيروت يتساءلون أين الجيش في تلك اللحظة المريرة، إذ شعروا أنهم متروكون في مواجهة سلاح “الحزب” الموّجّه إلى صدورهم، وقد يكون أحد الأخطاء أن الجيش آنذاك سحب عناصره من الشوارع ومن نقاط المراقبة، وأعاد تمركزها خارج المدينة، مزوّداً بأوامر مفادها أن يحمي نفسه وثكناته فقط، فيما ملأت مواكب مسلّحي “حزب الله” و”أمل” والحزب “السوري القومي الاجتماعي” و”البعث” شوارع بيروت بطولها وعرضها من دون حسيب أو رقيب! واكتفى لاحقاً بتكليف فرقة من المغاوير حماية السراي الحكومي، وفرقة مماثلة لحماية قريطم، ووحدات من فوج بيروت تولت حماية محيط كليمنصو مع العلم أن المطلوب كان حماية أهل بيروت قبل القيادات.

لم تعد صحيفة “المستقبل” موجودة اليوم، إلا أن المبنى القريب من “البوريفاج” لم يكن شاهداً على بربرية هؤلاء الحاقدين على الكلمة وحرية التعبير وحسب، بل شنّوا هجوماً على مكاتب الصحيفة، يطلقون النار، ويتقدّمون إلى المدخل بصوت واحد: “مستقبل سلِّم تسلمْ”. ومن المؤكّد أن هؤلاء ضيّعوا الطريق نحو القدس، واعتقدوا أن العدوّ الاسرائيلي يواجههم في محيط “الصحيفة” فأحرقوا المبنى وخرّبوا الشوارع المؤدية إليه.

ونمرّ الآن أمام مبنى تلفزيون “المستقبل” في الروشة ونردد “رزق الله”، فهذه القناة عكست وجه لبنان الاستقرار والازدهار وانجازات الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ولم يكن مصيرها في ذاك اليوم أفضل من مبنى صحيفة “المستقبل”، فباتت هدفاً لإطلاق نار كثيف من مجموعة مسلحين تابعين للحزب “السوري القومي الاجتماعي”، ثم وصلت سيارات رباعية الدفع إلى مبنى التلفزيون في القنطاري، تقلّ عناصر من “الحزب” ومعهم تقنيون من تلفزيون “المنار” قاموا بعملية تخريب مدروسة لكل أجهزة التلفزيون بعدما سطوا على كل ما سجلته كاميرات المراقبة.

لا حدود لهمجية “حملة سلاح” الذين درّبوا منذ العام 1982 لتحرير الجنوب والبقاع من العدو الاسرائيلي، ليتبيّن أن عقيدتهم لا تقبل الرأي الآخر، فيعتبرون كل من يعارض سياستهم ومشروعهم، “صهيونيّاً” يستحق الرجم والقتل، فيما كانوا ولا يزالون يقدّمون للعدو الاسرائيلي خدمات بضرب النظام اللبناني ومؤسسات الدولة ويخطفون قرارها الاستراتيجي بالسلم والحرب، علماً أن صرخة الاعلامية سحر الخطيب لا تزال تدوي في ضمائر هؤلاء العابثين بلبنان الرسالة.

وامتدت الأيادي السود إلى الجبل وبعض مناطق عكار، بعدما أصبحت بيروت مشلّعة، تنزف دماً ودموعاً، وكيف لها أن تتوقف؟ دماء الشهيد خالد جراب لم تجفّ بعد، وهو إبن الـ26 عاماً الذي أصيب بـ”رصاصة متفجرة” حاقدة، قبل أن يسلم الروح. خالد لم يحمل السلاح ولم يتعاطَ السياسة، بل عاد من الخليج الى لبنان واثقاً من أن الأمور ستعود الى طبيعتها. لذلك نشط لدى عودته الى لبنان حينها، ليؤسس مكتباً للخدمات السياحية، فإذا بالموت يسبقه برصاصة! وإلى جانب جراب، سقط 70 شهيداً، والمؤسف أن من أطلق عليهم النار، لا يزال متمسّكاً بسلاحه غير آبه بإرادة اللبنانيين الرافضة للحروب ولعبة العنف المتمادية.

وما يُحزن بيروت ويترك جرحها مفتوحاً حتى اليوم أنّ مفاعيل عملية 7 أيار مستمرّة. فهي كانت عملية انقلاب على نتائج انتخابات العام 2005 وعلى حكومة الرئيس السنيورة، بعدها أحكم “الحزب” قبضته على السلطة في لبنان نتيجة تسوية “الدوحة” التي أعطته الثلث المعطّل في الحكومة بالاضافة إلى وزراة المالية، وجعلته مع حركة “أمل” يحتكران التمثيل الشيعي ويفرضان الأسماء والحقائب.

بعد 16 عاماً على 7 أيار يتصرّف “الحزب” وكأنه دائماً في 5 أو في 6 أيّار. ويوحي من دون أن يعلن، كأنه على استعداد لشنّ حرب لا تنتهي ضد كل من يعارضه أو يمكن أن يقف في وجهه، فإلى متى؟

شارك المقال