الاقتصاد واللاحل

لينا دوغان
لينا دوغان

الاقتصاد في لبنان صنو السياسة، لا سيما في هذه المرحلة التي أطلت برأسها علينا عام ٢٠١٩ وبدأت تكبر ككرة الثلج، جارفة في طريقها كل ما يمكّن المواطن اللبناني من العيش بكرامة.

واذا أردنا غض النظر عن السياسة وويلاتها في البلد، فلا يمكننا أبداً أن نصرف النظر عن كوارث الأزمة الاقتصادية وهي آخذة في السقوط أكثر فأكثر.

أول ما يتبادر الى ذهننا هل سقطت علينا الأزمة فجأة في العام ٢٠١٩ أم هي نتيجة تراكمات؟ في هذا الاطار يقول د. غسان عياش نائب حاكم مصرف لبنان سابقاً: “الأزمة الاقتصادية التي يعيشها لبنان لها وجوه وعناوين متعدّدة إلا أنها مترابطة، وتتّصل ببعضها البعض أي هي علاقة السبب والنتيجة، إلا أن للأزمة محورين أساسيين وهما أزمة المالية العامّة والأزمة المصرفية والنقدية. أزمة المالية العامّة هي أمّ المشكلات والأزمات، وقد بدأت في ذروة الحرب الأهلية، بالتحديد في بداية الثمانينيات من القرن الماضي يوم فقدت الدولة السيطرة على مواردها المالية وباتت هذه الموارد لا تغطّي النفقات العمومية، فنشأ منذ ذلك الوقت عجز في مالية الدولة، وهو عجز مستمرّ من دون انقطاع حتى يومنا هذا. بل أخذ العجز يتفاقم ويتراكم سنة فسنة ويتعاظم معه الدين العام، حتى بات أكبر من قدرة الاقتصاد اللبناني على احتماله. العجز المتراكم في مالية الدولة هو المسؤول الأساسي عن تراجع سعر صرف الليرة اللبنانية وارتفاع معدّلات التضخم والفقر والبطالة”.

كذلك، يعتبر عياش أنه لا يمكن فهم الأزمة الراهنة الكبيرة إلا بتتبع تطورها من فصل إلى آخر. عجز الموازنة وتعاظم الدين العام أدّيا إلى نتائج أهمّها ارتفاع معدّلات التضخّم وانخفاض سعر صرف الليرة اللبنانية تجاه العملات الأجنبية. وهذه حالة تقليدية أهم أسبابها أن العجز يقود إلى زيادة حجم الكتلة النقدية، بسبب الفوائد العالية على ديون الدولة ومن ثم ارتفاع الفائدة عموماً. كما أن حاجة الدولة إلى تمويل نفقاتها الكبيرة، إذا لم تجد تمويلاً كافياً في السوق المصرفية والمالية، تدفعها إلى تنقيد العجز، أي خلق النقود عن طريق الاستدانة من البنك المركزي، وهو من أكبر أسباب التضخم وضعف قيمة العملة. القصّة تطول، ويمكن ايجازها كما يلي: مشكلة المالية العامّة في لبنان منذ أربعين عاماً وأكثر أدّت إلى انهيارات متوالية في سعر صرف العملة اللبنانية. حتى يتلافى هذه الانهيارات، تدخّل مصرف لبنان وخسر كل احتياطاته بالعملات، وسنة 2015 بعدما استنفد كل احتياطاته الخاصّة ارتكب خطيئة تاريخية عندما شجع المصارف على أن تودع لديه ودائع الناس بالعملات، وتصرّف بهذه الودائع لتثبيت سعر الصرف وتمويل الدولة. يمكن القول إن مصرف لبنان بهذه الطريقة أهدر معظم الودائع بالعملات التي وظفتها المصارف لديه. وهكذا ضاعت أموال الناس وانهار النظام المصرفي وفقدت الثقة كلياً بهذا النظام.

لم يعد اللبناني قادراً على تحمل هذا الوضع وهو يريد حلاً كي يحصل على وديعته أو جنى العمر كما يقولون، لكن برأي عياش فإن طول مدة الأزمة أو قصرها مرهون بالدولة اللبنانية، وبالتالي بالقيادة السياسية. عندما تواجه الدول أزمة بمستوى الأزمة العاصفة التي ضربت الاقتصاد اللبناني فإنها تسارع إلى وضع الخطط اللازمة لمعالجتها، ويستنفر المجتمع بأسره لكي يساهم كل عنصر من عناصره في دفع حصته في الاصلاح والعلاج، لكن التسويف سيد الموقف في لبنان، فتأجيل بت الاصلاحات الضرورية للخروج من الأزمة هو أزمة بحدّ ذاته بحسب عياش، بحيث أن القاصي والداني يرى بأمّ العين كيف أن السلطات اللبنانية تقف مكتوفة الأيدي أمام استفحال المشكلة المالية والمصرفية من دون اتخاذ أي قرارات. وطريق الاصلاح أصبحت واضحة خصوصاً أن الاصلاحات جرى تفنيدها في الاتفاق الأولي مع صندوق النقد الدولي وفي المشاريع الاصلاحية التي أقرّتها وتبنّتها الحكومات، منذ حكومة الرئيس حسان دياب، ولم تصل إلى التنفيذ.

من السهل القول ان التأجيل ناتج عن الاهمال الذي يسيطر على عمل السلطتين التشريعية والتنفيذية ولكن هذا التشخيص لم يعد كافياً، ويخشى أن يكون السبب أعمق من ذلك. الاحتمال الأوّل أن القيّمين على الدولة يخشون القيام بالاصلاحات منعاً لدفع الثمن السياسي، فالاصلاحات تتطلب إجراءات قاسية لا يقبلها الرأي العام بسهولة. على سبيل المثال لا الحصر زيادة الضرائب وخفض النفقات الاجتماعية وشطب نسبة من ودائع الناس في المصارف، هذه إجراءات قد ترافق الاصلاح وهو ما يرفضه الشعب، والسياسيون في السلطة يتهربون من مواجهة قواعدهم الشعبية. الاحتمال الثاني، يتعلق بالتحديد بودائع المصارف، فالتعاميم الصادرة عن مصرف لبنان يؤدّي تطبيقها إلى قضم تدريجي طويل الأمد للودائع، اذ بدل شطبها بقرار دراماتيكي يواجَه بانفجار الرأي العام، تعتمد طريقة إذابة الودائع تدريجاً وبموافقة، أي بتوقيع، المودعين.

وعن الخوف من وصول أموال “حماس” الى لبنان بعد حرب غزة، ويرى معظم اللبنانيين أنه خوف في محله، يجيب عياش: “ليست هناك معلومات عن وجود مبالغ مالية ضخمة تعود الى حركة حماس مثل الأموال التي كانت تملكها منظمة التحرير الفلسطينية إبان وجودها في لبنان”، لكنه لا يستبعد أن يكون لبنان أحد الممرات للمساعدات المالية التي تقدّمها إيران لحركة “حماس” نظراً الى خبرة بعض الصرافين في لبنان وديناميكيتهم وقدرتهم على تجاوز العقوبات الأميركية والرقابة الاسرائيلية، ويختم جملته قائلاً: “والله أعلم”.

باختصار الاقتصاد بين فكي كماشة، والحل يدفعه المواطن ولا تقبل بل ترفض السلطة الحاكمة دفعه حتى من حسابها الشعبوي، فهي تشتري الوقت وصولاً الى حل سياسي ينهي الأزمة الاقتصادية ، وبذلك تكون قد أكلت عنباً كما تريد، ولم تقتل الناطور.

شارك المقال