منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الماضي تاريخ إعلان “حزب الله” عن “حرب المشاغلة” في الجنوب دعماً لحركة “حماس” وإنخراطاً في عملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها “كتائب عز الدين القسام” قبلها بيوم، والبلد بات أسير هذه المشاغلة التي أتت وكأنها “طوق نجاة” وذريعة للطبقة السياسية اللبنانية لتغطي فشلها وعجزها وإستسلامها أمام الاستحقاقات الداهمة التي كان البلد ولا يزال أسيراً لها هي الأخرى، من مسألة رئاسة الجمهورية إلى الوضع الاقتصادي والمالي المنهار الذي يتسبب في وضع أمني وإجتماعي هش، تفاقم من حدته وصعوبته مسألة اللاجئين السوريين التي باتت قنبلة موقوتة قابلة للإنفجار عند أي تطور أو منعطف يرى فيه اللاعبون “الكبار” مصلحة لهم في التفجير.
وفي مفارقة عجيبة غريبة، نرى مقابل هذا الاستسلام اللبناني الذي يبدو وكأنه بات قدراً لبنانياً “مريحاً” أقله لأطراف اللعبة الداخلية، نرى مساعي خارجية حثيثة عربية ودولية – بغض النظر عن النوايا وعما يراه البعض مصلحة لهذه الأطراف – لمحاولة تحريك المياه الراكدة وفك أسر البلد سواء على خط أزمة الجنوب أو خط الأزمة الرئاسية.
على خط الأزمة في الجنوب، نجد هناك الورقة الفرنسية التي قُدِّمت ورد عليها “أولو الأمر” في لبنان على طريقة رفع العتب ليس إلا، لأنهم يفضلون كما يبدو التفاوض مباشرة مع أميركا و”صديقهم” آموس هوكشتاين، مع أن الورقة الفرنسية قد تكون صدىً وترجمة لبعض الأفكار الأميركية على طريقة جس النبض، لأن من الصعب التصور أن فرنسا يمكن أن تقدم على شيء من هذا القبيل من دون أقله التشاور مع أميركا، وفي الحالتين نرى حراكاً محموداً – بغض النظر عن النتائج – يشي ببعض الاهتمام بمصلحة لبنان ولو من باب الاهتمام بالمنطقة ككل، في الوقت الذي يتهاون فيه بعض اللبنانيين بهذه المصلحة في ظل المخاطر التي تحيق بالبلد من كل الجهات، وفي ظل الخسائر التي نتجت ولا تزال عن “حرب المشاغلة”ز
وتقول الاحصائيات إن 400 شهيد سقطوا منذ بداية الحرب، وحوالي 3200 منزل دمرت كلياً أو جزئياً ومثلها تضرر، كذلك وصل عدد النازحين من المنطقة الحدودية إلى أكثر من 90 ألف نازح يعيشون ظروفاً مأساوية، والتكاليف المادية المباشرة وغير المباشرة قد تتجاوز الملياري دولار، من دون أي أفق واضح عن المصير سوى القول والعمل بموجب الربط ما بين الوضع في غزة والجنوب، ومن دون أي ضمانة بأن إسرائيل و”حماس” تضعان هذا الأمر بإعتبارهما في المفاوضات الجارية، أو إن كانت “حماس” أصلاً في وضع يسمح لها بمنح الضمانات، ما يطرح السؤال عمن يضمن إلتزام الاسرائيلي في حال وقف القتال في غزة – إن حصل – بأن يسري هذا الأمر على جبهة الجنوب؟
أما على جبهة الأزمة الرئاسية التي باتت مع الأزمة في الجنوب تذكرنا بمقولة أيهما قبل “البيضة أم الدجاجة”، فقد كان لافتاً البيان الصادر عن الاجتماع الأخير للجنة الخماسية في عوكر، وكذلك اللهجة التي صيغت به، بحيث بدت وكأنها “تحذير بمعرض الحث ” مع تحديد آخر أيار كموعد مقبول قبل أن تدخل المنطقة في سباق مع الوقت لحسم الأمور العالقة سواء سلماً أم حرباً على أبواب الانتخابات الأميركية، التي يسعى بنيامين نتنياهو الى التأثير عليها عبر التشدد وإطالة أمد الحرب من باب الرهان على عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
البيان الأخير للجنة الخماسية بدا وكأنه نسخة منقحة عن مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري التي طرحها سابقاً بضرورة الحوار لمدة قصيرة حددها يومها بسبعة أيام، قبل الانتقال الى دورات إنتخاب متتالية مع إستبدال كلمة حوار بكلمة تشاور، والتي كانت رفضتها قوى المعارضة المتعددة التي تتصرف بسلبية لا تقل خطورة على البلد عن تصرفات الفريق الآخر، الذي على الرغم من تشدده وثباته على مرشحه – وهذا طبيعي في الحياة السياسية – فإنه على الأقل موحَّد الصفوف، يطرح كما يتلقى مبادرات ويتعامل مع الخارج بمرونة وذكاء ما جعله في موقع الحاكم المطلق للبلد.
أما “المعارضات” فتبدو وكأنها تهوى المعارضة للمعارضة على طريقة “شوفيني يا منيرة”، وكأني بها تعتقد أنها بذلك تكون قد أدت قسطها للعلى، في حين تبدو فاقدة للمبادرة والجدية، وهنا نفتح قوسين لنقول إن الأيام والتطورات بدأت تنصف الرئيس سعد الحريري الذي تفتقده الساحة السياسية والوطنية في هذه الظروف وهو الغائب – الحاضر دوماً في قلوب محبيه، كما في لاوعي خصومه عن طريق إشاعات خبيثة يبثونها ضده تارة بالحديث عن صحته وأخرى بالحديث عن بيع تلفزيون “المستقبل”، وما هذا سوى محاولة منهم للتغطية على هشاشتهم وضعف منطقهم في تعاملهم مع التطورات، بينما الوضع في المنطقة لا يحتمل تصرفات كهذه أقل ما يقال فيها انها صبيانية ولا تليق بأناس يتحملون مسؤولية وطن وشعب.
الوقت يمر والخيارات تضيق أمام الجميع في المنطقة والانتخابات الأميركية على الأبواب، ما يضع الجميع أمام مسؤولياتهم خصوصاً نحن في لبنان علينا تلقف الاهتمام الدولي والعربي في هذه الظروف الصعبة قبل فوات الأوان ولو ببعض التضحيات لفك أسر البلد الذي يكاد يضيع ما بين المشاغلة على الحدود والمناكفة في الداخل، ولنا في تاريخنا القريب والمتوسط عبرة ودرس، بأنه عند تغيير الدول إحفظ رأسك، لأن من لا يتقن ويحسن اللعب في الوقت المناسب قد يصبح هو الملعب.. وربما الكرة أيضاً حتى إشعار آخر.