كل الأيام تتشابه، إلا هذا اليوم، الجمعة التاسع من يونيو ١٩٦٧، كنت قد تيقنت من هزيمتنا في الحرب، رغم بيانات عسكرية معجونة بالأكاذيب، حاولت إخفاء الحقيقة، لم يكن أبي راغباً في معرفة حقيقة ما جرى، كان يحاول اقناعنا بما لا يصدقه هو نفسه من بيانات عسكرية يتلوها أحمد سعيد ومحمد عروق على موجات “صوت العرب”، لا أعرف هل كان يخشى علينا من أثر الصدمة، فيحملنا بالتمني بعيداً عن وقائع هزيمة بدت جارحة لكبريائنا الوطني، أم أنه كان يتمنى أن يكون ما نقله اليه بعض أصدقائه عن سقوط سيناء في قبضة اليهود، مجرد شائعات تروجها أجهزة معادية؟
في كل الأحوال، كان حدسي يخبرني منذ بدايات الضربة الجوية الاسرائيلية لسلاحنا الجوي صبيحة الاثنين الخامس من يونيو، أن هزيمة ثقيلة قد طالت حلمنا الكبير، لكنني كنت أخشى البوح بمخاوفي حتى لا أصيب أسرتي بخيبة أمل، وكنت أعلل نفسي بأنني ربما كنت على خطأ.
كان مؤشر الراديو في غرفتي، قد غادر محطاتنا المصرية، وراح يفتش بقلق عما يقوله راديو “صوت أميركا”، وإذاعة “بي بي سي” و”راديو اسرائيل”، وكلها إذاعات كانت تتعرض لعمليات تشويش مؤثرة، فكنت أستمع الى نصف الجملة وأستكمل النصف الآخر بما تجود علي به القريحة، وكنت قد تبينت من الساعات الأولى للحرب، أننا قد أصبحنا خارجها، ومع ذلك فقد بكيت في اليوم الثالث للحرب، وانا أستمع الى بيان المتحدث العسكري المصري، الذي قال فيه لأول مرة ان قواتنا المسلحة قد انسحبت من خط الدفاع الأول، وأنها تتمركز الآن عند خط الدفاع الثاني.. كانت المرة الأولى التي أسمع فيها تلك المفردات الحربية، كما كانت أول مرة يقر فيها المتحدث العسكري المصري بأن ثمة أراض مصرية في سيناء باتت في قبضة الاسرائيليين.
في خطبة الجمعة التاسع من يونيو ١٩٦٧، بمسجد الخازندار بشبرا، على بعد أمتار من منزلنا، كان خطيب الجمعة يتحدث، عن خير أجناد الأرض، وعن الجهاد في سبيل الله، وكان يدعو المصلين الى العودة الى الله، والأخذ بأسباب النصر، وعندما حل المساء، تحلقنا حول الراديو بانتظار خطاب سيلقيه جمال عبد الناصر.
مشهد لا يمكن أن أنساه، يوم الخميس الثامن من يونيو، كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة صباحاً، عندما لاح على بعد حوالي مائة متر، مجند مصري، كان زيه العسكري يبدو ممزقاً يعلوه خليط من الرمال والجير والزفت، وقد تعفر وجهه بخليط من العرق والتراب، فيما تحلق حوله بعض المارة الذين أوسعوه ضرباً، عقاباً له على ما ظنوه هروباً من جبهة القتال في سيناء. قفزت السلم مهرولاً الى الشارع لتبيان الحقيقة، وما ان رآني الجندي حتى ناداني بإسمي مستغيثاً بي أن أنقذه، أحطته بجسدي لأمنع عنه ضربات الشارع الغاضب، وفوجئت بأن الجندي المضروب ليس سوى محمد صبي الترزي، الذي تم تجنيده قبل الحرب ببضعة أشهر، وعلمت منه بأن قواتنا قد انسحبت عشوائياً من سيناء، وأنه كان محظوظاً اذ تمكن من الوصول الى القاهرة.
اصرار الناس في الشارع على ضرب محمد الترزي باعتبار أنه فار من الخدمة العسكرية، كان تعبيراً عن رفضهم الاعتراف بالهزيمة، وهو الرفض نفسه الذي قاد المصريين لاحقاً الى خوض مراحل المواجهة مع اسرائيل (الصمود – الردع – الاستنزاف – العبور).
مشهد محمد الترزي بثياب الجندية الممزقة عند مدخل شارع شيبان قرب شارع شبرا، كان كافياً للتيقن بأن هزيمة ثقيلة قد لحقت بنا، وكان المشهد بذاته توطئة لمشهد التنحي في ليلة حالكة السواد، غاب فيها القمر (كانت الليلة الأولى في شهر ربيع الأول).
استبقت الإذاعة خطاب الرئيس بفاصل من الأغاني الوطنية، كنت أسمعه لأول مرة، وبينما كان الظلام يرخي سدوله على كل شيء، جاء صوت محرم فؤاد مجلجلاً من راديو مقهى قريب: “مصر يا أم البلاد. أنت غايتي والمراد.. وعلى كل العباد .. كم لنيلك من أيادي”.. سرت قشعريرة في جسدي، وشعرت وكأنما أسمع هذه الأغنية لأول مرة.. كنا نستغيث بمصريتنا لتحمينا من توابع هزيمة لم نكن قد تبينا بعد مدى فداحتها.
بدا وكأن الإذاعة المصرية قد فتشت في ذاكرتها، عن أناشيد وطنية تتغنى باسم مصر وتعاهدها على رد اعتبارها والثأر لها ممن هزموها، وبدا اختيار نشيد بلادي.. بلادي موفقاً بدرجة كبيرة.
ادلهم الظلام، فيما كنا نتحلق حول الراديو بانتظار ما سيقوله عبد الناصر، كانت بعض الأحاديث الغاضبة على المقاهي، تطالب برحيل المسؤولين عن الهزيمة بمن فيهم جمال عبد الناصر نفسه. لكن مصر كلها خرجت عن بكرة أبيها، تعلن تمسكها بعبد الناصر وتطالبه بالبقاء في موقعه.
ما ان أعلن عبد الناصر “تنحيه عن أي منصب رسمي والعودة الى صفوف الجماهير” حتى خرج المصريون الى الشوارع في تظاهرة جماهيرية غير مسبوقة، يطالبونه فيها بالبقاء في موقعه.
كنت بين هؤلاء الذين خرجوا مطالبين عبد الناصر بالبقاء، كان يوماً يشبه يوم الحشر، لا أحد في بيته، الناس في الطرقات جميعاً وكأنما خرج حتى الأموات من قبورهم ليطالبوا الرئيس بالبقاء في موقعه.
خرجت مع زملائي بالمدرسة ومع جيراني، ومع أقربائي، ومع مئات من الناس لم أكن أعرفهم، لم نكن نعرف طريقنا وسط الظلام، ولا اتفاق بيننا على وجهة محددة نقصدها، لكننا جميعاً كنا نعرف لماذا خرجنا.. فقد خرجنا لنرفض الهزيمة، وكان تمسكنا ببقاء عبد الناصر، في جانب مهم منه، هو اصرارنا على تحميله مسؤولية حرب نريد بها أن نهزم الهزيمة .
عقب انتهاء خطاب التنحي، بثت الإذاعة أغنية كتب كلماتها الشاعر صالح جودت ولحنها رياض السنباطي وغنتها أم كلثوم. كانت كلمات الاغنية التي أذيعت بعد دقائق فقط من خطاب التنحي تطالب عبد الناصر بالبقاء!.. هل كانت أم كلثوم والسنباطي وصالح جودت على علم مسبق باعتزام عبد الناصر التنحي؟!.. ربما.. هل جرى تكليف الثلاثة بإعداد تلك الأغنية التي جرى بثها لبضع ساعات، الى أن عاد عبد الناصر نزولاً على إرادة الجماهير؟!.. ربما..
كانت كلمات الأغنية تقول:
قم واسمعها من أعماقي
فأنا الشعب
ابق فانت السد الواقي لمنى الشعب
ابق فأنت الأمل الباقي لغد الشعب
أنت الخير وأنت النور
أنت الصبر على المقدور
أنت الناصر والمنصور
إبق فأنت حبيب الشعب
حبيب الشعب.. دم للشعب
قم إنا جففنا الدمع وتبسمنا
قم إنا أرهفنا السمع وتعلمنا
قم إنا وحدنا الجمع وتقدمنا
قم للشعب وبدد يأسه
واذكر غده واطرح أمسه
قم وادفعنا بعد النكسة
وارفع هامة هذا الشعب
إبق فأنت حبيب الشعب
حبيب الشعب .. دُم للشعب
قم لله وقل للناس
قل للعصر
رغم الجرح ومر الكأس
عاشت مصر
وغدا سنؤذن في الناس طلع الفجر
وغداً ستحيي الأجراس يوم النصر
قم إنا أعددنا العدة
قم إنا أعلينا الوحدة
فارسم أنت طريق العودة
وتقدم يتبعك الشعب
إبق فأنت حبيب الشعب
حبيب الشعب.. دم للشعب
الكلمات تحمل تحريضاً للجماهير على رفض الهزيمة، وتحمل تحريضاً على التمسك بعبد الناصر في إطار رفض الهزيمة، وتحمل بعض كلمات التعزي أو العزاء لعبد الناصر بدا بعضها مفرطاً في المبالغة، كدأب عصر بأكمله، كما تحمل الكلمات تفويضاً من الشعب للرئيس.
ربما يمكن تفهم هذه الكلمات في سياق ظرف نفسي ضاغط على زعيم مهزوم وأمة مهزومة، ولكن لا يمكن تفهمه داخل أي سياق وطني واع، يعرف أن الأمم الحية لا تقدم شيكاً على بياض حتى للزعماء المنتصرين.