المقايضة: مكاسب “حزب إيران” لقاء حكومة الممكن؟

عبدالوهاب بدرخان

في يوم واحد، الخميس 12 تموز، كالآتي: قطع طرق في أنحاء مختلفة احتجاجاً على قرار رفع الدعم عن المحروقات. مسيرات ووقفات متضامنة مع أهالي ضحايا المرفأ لمنع “نواب العار” من الاجتماع لإقرار تشريع هدفه الإطاحة بالتحقيق القضائي في الانفجار. اجتماع في بعبدا للمجلس الأعلى للدفاع (بديل الحكومة) للطلب من حاكم البنك المركزي التراجع عن قرار رفع الدعم. ثم جولة أخرى من الحوار “المتفائل” بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف تشكيل حكومة حول إسقاط الطوائف على الحقائب الوزارية، ومحاولة تذليل العقبات في توزيع الحقائب الخدماتية. وفي الوقت نفسه كانت طوابير الذلّ تتزايد أمام محطات البنزين، والأفران، ومقر الأمن العام للحصول على جوازات سفر حيث لا يتعب المنتظرون بل يصلون النهار بالليل ليقصّروا ما أمكنهم مدة بقائهم في بلد لم يعد بلدهم، بل لم يعد بلداً.

لم يبقَ سوى الهواء، ومن يدري، فقد تكون لدى المافيات وسائل لتخزينه وقطعه وإلحاقه بالعناوين الأخرى: لا دواء، لا كهرباء، لا بنزين، لا مازوت. والتوقّعات: لا غاز للمنازل، لا غذاء (بسبب انقطاع الكهرباء والمازوت)، وقريباً لا إنترنت، ولا استشفاء… فمستشفى المقاصد أعلن أنه لم يعد قادراً على استقبال مرضى لنقصٍ في الأدوية والمستلزمات وتعطّلٍ للمعدّات. مستشفيات كثيرة أنذرت بأنها تقلّص خدماتها تدريجاً، الدوائر الحكومية تخرج تلقائياً عن الخدمة… ما يُختصر عملياً بأن حياة الغالبية العظمى من اللبنانيين مهدّدة بالتوقف قسراً في كثير من جوانبها. لكن، في المقابل، تأكدت حقيقة أن مافيات القطاعات كافةً تخزّن الطاقة والأدوية والمواد الأساسية، وتتخذ من الفوضى والمآسي فرصةً ووسيلة لمراكمة المكاسب. والمافيات متضامنة ومتكافلة مع منظومة السلطة في “كارتيل” واحد لشفط آخر دولار في البلد.

سنة ثانية تمضي قدماً في تعويد اللبنانيين على ما لم يألفوه منذ زمن: الذلّ والعوز، فيما تتوقّع التقديرات الدولية أن يتطلّب تعافي الاقتصاد 15 الى 20 سنة، إذا بدأت المعالجة الجدية العميقة اليوم. شعوبٌ ودولٌ عدة (منها اليونان وقبرص) تعرّضت لأزمات مماثلة، فانهار اقتصادها تدريجاً وهبطت عملاتها وتبخّرت رفاهياتها، لكن توفّرت لها سريعاً حكومات استطاعت أن تفرمل الانهيار وتقلّص سبل الفساد، اعتمدت إصلاحات استثنائية وبرامج تقشّفية، ووعدت بعودة الى حياة شبه طبيعية في أفق زمني محدّد، وتوصّلت فعلاً الى بدايات انتعاش. أيُّ تقشّفٍ يمكن أن يُطلب من الشعب اللبناني بعدما خسر أمواله ورآها تُسرق أمامه، وبعدما يئس من منظومة الحكم ورأى دولته عاجزة منهوبة مسلوبة الإرادة، بل بعدما يئس العالم منها مُوقناً بأن القيمين على البلد “يراهنون على اهترائه” وفق الرئيس الفرنسي.

لكن، قبل أن تكون هناك حكومة جديدة هل يمكن لأحد أن يفسّر اليوم لماذا جيء بحكومة حسان دياب ولماذا عاملها “حزب إيران/ حزب الله” و”التيار العوني” كأنها مستقيلة حتى قبل أن تستقيل؟ ربما لم يعد هذا مهمّاً الآن، لكن هل لأحد أن يوضح لماذا حُوّل رفع الدعم عن المحروقات الى مسرحية سوداء وجُعل حاكم المصرف المركزي الشرير الوحيد فيها، رغم أنه أنذر الجميع مسبقاً وحدّد لهم الطرق القانونية التي تجيز للمصرف الإنفاق من الاحتياط الإلزامي لئلا يرفع الدعم. هل أن اقتراب موعد الانتخابات أخاف عصابات السلطة من هذا الاجراء الذي كانت تعرف أنه آتٍ لا محالة، أم أنها تعتبر ذلك الاحتياط “غير الزامي” وتريد أن “يتصرّف” حاكم المصرف من دون أي تغطية قانونية؟

أسئلة كثيرة طُرحت منذ تفجّر الأزمة ولم يُجب عنها، في شأن إجراءات كثيرة كانت تتطلّب تشريعات ولم تُعتمد، كما بالنسبة الى “الكابيتال كونترول” بدايةً أو الى “البطاقة التمويلية” أخيراً، أو في شأن ملف التفاوض مع صندوق النقد الدولي. السائد حالياً أن تأخير “البطاقة التمويلية” غير مبرّر، طالما أن البنك الدولي سيموّلها، إذاً فالتأخير متعمّدٌ لاعتمادها مع اقتراب الانتخابات، وكأن أحزاب السلطة تسعى الى تغطية جزء من نفقات حملاتها الانتخابية بمساعدات البنك الدولي. هذه السلطة وأحزابها تعرف أن سمعتها الدولية في الحضيض لكنها مطمئنة الى فوزها في الانتخابات المقبلة، وإلى أن تحالفات المافيا والميليشيا ستشكّل لها تعويضاً عمّا قد تخسره.

انطلاقاً من هذه العقلية العفنة، يصحّ التساؤل هل يمكن لأي حكومة تستولدها هذه المنظومة أن تعمل بفاعلية؟ هل يمكن الوثوق بها؟ القوى الخارجية المعنية بلبنان باتت تريد الآن أي حكومة يمكن التعامل معها حتى لو ابتعدت كثيراً في تأليفها عن المعايير المطلوبة. كان تعطيل الحكومة في حدّ ذاته غايةً واستراتيجية لخفض الشروط الخارجية، وعنى أن المنظومة تريد أن تحقّق بشروطها ولن تتيح لأي حكومة أن تولد، فهل توصّلت الى هدفها؟ توحي عملية “تدوير الزوايا”، كما تسمّى، بأن ثمة بحثاً عن “تسوية” داخلية – خارجية تبدو صعبة إن لم تكن مستحيلة، وقوامها حكومة لا تخلّ بالمعادلة القائمة، أي: 1) إظهار الحكومة “العتيدة” كأنها مشكّلة من “اختصاصيين مستقلّين” لتتمكّن من العمل “على القطعة” فتطلب المساعدات لقاء بعض الإصلاحات، لكن كلّاً من قراراتها سيحتاج الى “تسويات” جزئية. 2) “حزب إيران” لن يتنازل عن شيء من السلطات والصلاحيات التي سلبها ولن يغلق خطوط التهريب عبر الحدود ولن يضطر لإعلام الدولة كلما تلقى تعليمات من طهران بإطلاق صواريخ على إسرائيل. 3) “التيار العوني” يريد السيطرة على الوزارات التي تمكّنه من توجيه الانتخابات ليطمئن “باسيله” المكروه داخلياً وخارجياً إلى حظوظه الرئاسية…

شارك المقال