قبيل غروب شمس ذلك اليوم المشؤوم والأسود، في 13 حزيران من العام 2007، أبكرت شمس بيروت في الإنكفاء، عندما نالت العبوة القاتلة التي زرعها المجرم بالقرب من بحر بيروت من إبنها وليد عيدو، البيروتي الوطني والعروبي، الناصري والحريري الإنتماء، الذي كان يملأ ساحات مدينته النضالية حيوية لم تكن تعرف الهدوء ولا السكينة والإنكفاء. فالنائب والقاضي الشهيد وليد عيدو، إبن منطقة الباشورة، أحب بيروت وعشقها وكان يدافع حتى الرمق الأخير عن عاصمة الوطن الذي عمل كل حياته من أجل بنائه من شبابه قومياً عربياً ناصرياً إلى عمله في القضاء وبعدها إلى النيابة في العام 2000.
كان ناصرياً مع جمال عبد الناصر، وحريرياً مع رفيق الحريري، ولم يرَ تناقضاً بين المشروعين في ما يتعلق بالعلاقة بين الوطنية والعروبة، فبداياته السياسية كانت خلال دراسته الحقوق في الجامعة اللبنانية، عندما إنتسب إلى “حركة القوميين العرب”، وهناك تعرف على رفيق الحريري. مع بداية الحرب اللبنانية إنضم بدافع عروبته وناصريته إلى حركة الناصريين المستقلين “المرابطون”، ليصبح واحداً من أبرز أعضاء مجلس قيادتها، من موقعه كأمين للإعلام، بحيث ساهم في تأسيس إذاعة “صوت لبنان العربي” ومجلة “المرابط الراصد”. ولأن إنتماءه السياسي، كان مخالفاً لأصول تنظيم السلك القضائي الذي يمنع الانضمام إلى الجمعيات السياسية، فقد إختار لنفسه إسماً حركياً هو رضوان سعادة، ووجهت اليه إتهامات بأنه مارس القضاء من خلال دوره الحزبي، وأصدر أحكاماً بحق أشخاص اختطفوا وغير ذلك. لكنه يدحض تلك التهم بقوله: “لم يكن لي أي دور في المفهوم الذي يتداوله البعض بأنني كنت قاضياً في المرابطون، كنت قاضياً لا قاضياً في المرابطون، ولم أتعاط في أي موضوع أمني أو قضائي”.
ويضيف: “أساسا لم يكن هناك قضاء ولا غير قضاء في المرابطون. ولم تكن هناك لا محاكمات ولا غير محاكمات. مثل كل التنظيمات التي كانت موجودة، كان يتم توقيف أشخاص أحياناً، من جهاز الأمن الذي يتولى التحقيق معهم، لكن لم تتخذ أي عقوبة بحق أي شخص. ولم تكن لي علاقة بهذا الموضوع مطلقاً”. ويتابع: “أنا قاضٍ ولدي حسّ ونزعة عروبية ووطنية كبيرة. وقد راهنت وغامرت بوجودي ومستقبلي في القضاء وقمت بعمل، في تقديري هو عمل وطني في ذلك الوقت، دفاعاً عن القضية الفلسطينية. فأنا من موقعي الاسلامي والسني أعتبر أن الموضوع العربي يستحق أن تغامر بحياتك وليس فقط بمستقبلك المهني من أجله”.
في بداية الثمانينيات عاد إلى العدلية واستقبل فيها لأنه لم يرتكب أي شائبة أثناء وجوده في “المرابطون”، ولم يحاسب على انتمائه السياسي، لأنه كان هناك قضاة آخرون في أمكنة سياسية أخرى. ومن وقتها، تدرج في مناصب عدة بدءاً من تعيينه مستشاراً لدى محكمة إفلاس بيروت، ثم لدى محكمة التجارة في بيروت. وعمل رئيساً لمحكمة التنفيذ في صيدا ورئيساً لمحكمة الأحوال الشخصية في صيدا أيضاً. وتولى رئاسة محكمة القضاء المستعجل في المدينة نفسها قبل أن ينتقل الى بيروت رئيساً لمحكمة التنفيذ، فرئيساً لمحكمة مجلس العمل التحكيمي، ثم رئيساً لمحكمة إستئناف جبل لبنان، قبل أن يعين نائباً عاماً استئنافياً في الشمال. وعندما عاد أخيراً إلى بيروت رئيساً لمحكمة استئناف الجزاء، عرض عليه ملف إخلاء سبيل المدير العام لمرفأ بيروت مهيب عيتاني، فوافق على إخلاء السبيل، لأنه رأى أن توقيفه جاء ظلماً ومن دون وجه حق، ما أثار زوبعة سياسية. وهنا إتصل الرئيس الحريري بعيدو وهنأه على قراره، وعرض عليه العمل في السياسة والترشح الى النيابة، فوافق عيدو واستقال من منصبه القضائي. وخاض الانتخابات على لائحة الرئيس الحريري التي حققت فوزاً كاسحاً. وبقي في موقعه بعد رحيل الحريري عضواً في كتلة “المستقبل”، ليعاد إنتخابه عن دائرة بيروت الثانية العام 2005.
التحوّل الكبير في حياة عيدو حدث إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، ما حوّله من مناضل قومي مناصر للقضية الفلسطينية إلى مدافع عن مشروع “لبنان أوّلاً”، من دون التخلي عن العروبة المتنوّرة، “غير المخابراتية” حسب تعبيره. فمنذ اغتيال الرئيس الحريري، لمع نجمه في سماء الأكثرية النيابية، بعدما اشتهر بانتقاداته اللاذعة لخصومه السياسيين، إلى درجة دفعت كثيرين إلى وصفه بأنه من “صقور” تيار “المستقبل”. وهو اتهام لم ينفه، بل رده الى خلفيته القضائية التي تجعله “يقول كل الحقيقة”، معترفاً بأنها تصدر أحياناً بصورة جافة وقاسية.
كان ممسكاً بالمسار القضائي الذي اتّبعته المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، كيف لا وهو المتمرّس في العمل القضائي وصاحب مقولة “لا يوجد نصف حكم ولا نصف حقّ”. فقد شغلت المحكمة الخاصة بلبنان الشهيد عيدو، وهو من الأصوات التي ظلت تطالب بإقرارها حتى رأت النور في 30 أيار 2007، بعدما أصرّ في أكثر من موقف على ضرورة إنشائها في لبنان، لكنه كان أيضاً متحمّساً لإقرارها في مجلس الأمن تحت الفصل السابع في حال لم تقرّ في مجلس النواب.
إستطاع وليد عيدو أن يكون قريباً من الشباب على الأرض، وهو المعروف بالحضور الدائم في مخيم انتفاضة الاستقلال اللبناني في ساحة الشهداء، كان يصرّ على التواجد يومياً، يزور ضريح الرئيس الشهيد رفيق الحريري، يعود إلى ناحية التمثال يلقي تحيته على الناس كأنهم أصدقاؤه من كل لبنان، يسهر معهم ليعود إليهم في اليوم الثاني مدركاً حجم الخطر الذي قرر أن يجابهه. فلم يغب عيدو عن ساحة الحرية وكان جزءاً من ناسها ومن صانعيها، كان الرجل المحبّ والدمث الأخلاق، والمميز في نضاله وعدم خوفه من شيء، ساهم في ساحة الحرية مع شباب قوى الانتفاضة، وكان “دينامو” التحركات السياسية لقوى 14 آذار وأكثر ما يلفت فيه هو شجاعته الاستثنائية وجرأته في مواجهة المخاطر.
إنه فعلاً وعملاً، كان المناضل في ساحة الشهداء وفي المجلس النيابي وفي لجنة المتابعة في 14 آذار، الذي وقف في وجه “المجرم”، حاملاً قضية الرئيس الشهيد رفيق الحريري وكل شهداء الحرية والاستقلال، حتى لحق به وبرفاقه شهيداً، لتخسر بيروت التي أحبها حتى الاستشهاد، واحداً من أبرز نوابها الذين تميزوا بالجرأة والشجاعة، بعدما كان رأس حربة وخط الدفاع الأول في معركة إنشاء المحكمة الدولية، وكأن قدره أن يكتب قرار نشأتها بدمائه الزكية.