عون لا يشبه لبنان

علي نون
علي نون

في أي خانة يمكن أن يوضع موقف رئيس الجمهورية الأخير والعلني أمام وفد زاره في قصر بعبدا؟ في خانة المسؤولية الوطنية العظمى؟ أو في خانة القسم الدستوري؟ أو في خانة الحفاظ على انتظام عمل مؤسسات السلطة الشرعية؟ أو في خانة الالتزام الشخصي الفروسي من قبل رأس الدولة بتقاسم المعاناة والآلام مع رعايا هذه الدولة ومواطنيها الكرام وعدم جواز تركهم من دون راع صالح أمام الذئاب الناهشة فيهم من كل حدب وصوب؟ أم أن الأمر يؤخذ من زاوية القياس العقلي؟ وليس من سواه مهما تعددت عناوين ذلك؟

صعب الافتراض (حتى في ظلال التمنع عن الهوى السياسي المضاد) أن ما يعلن من قبل صاحب المسؤولية الأولى عرفاً وممارسة، هو أمر طبيعي وعادي وتلقائي ويمكن النظر إليه من أبواب وشبابيك السياسة والتحليل والقراءة المألوفة للقرارات التي يتخذها أي رجل معني بالسلطة وتأثيراتها على مصائر الدول والناس… صعب جداً الذهاب إلى قياسات طبيعية في حالتنا الرئاسية الراهنة، ومحاولة الطرق على أبواب الحكمة لتفسيرها أو لتبريرها أو لتفهم خلفيات وظروف صاحبها، أو مقاربتها بموضوعية تامة أو ناقصة! ومن زاوية الاعتراف الوسطي والذهبي بإن للآخر المختلف حيثية حقوقية ذاتية أكيدة، وأن النفس الإلغائي يعني استدعاء الفناء وكسر منطق الوجود من أساسه وبالتالي إعدام فرضية التسوية وقوانينها الحاكمة لكل شيء قائم.

لبنان في ذاته الجغرافية هو تسوية بين الصحراء والجليد، وفي ذاته الدستورية هو تسوية بين الاستبداد والفوضى، وفي ذاته الوطنية هو تسوية بين الأحادية المطلقة والتعددية المقسّمة، وفي ذاته الكيانية هو تسوية بين جماعات دينية مختلفة ارتضت التوافق على العيش الحر واجتراح أسباب ذلك كل يوم بل كل ساعة… اليست الحياة في أساسها تسوية بين الخلود من جهة والفناء من جهة ثانية؟ وأليس لبنان الجغرافيا والاجتماع والكيان والدستور تلخيص خلاّب للوسط الذهبي الذي حكى عنه فلاسفة الاغريق وتغنّى به فلاسفة الشرق؟

كان يمكن الدخول من أبواب كثيرة لأخذ تلك الوسطية في الاعتبار، والنظر عبرها إلى المواقف المعلنة والمتخذة من قبل رأس السلطة الشرعية، لكن الأمر غير ممكن، ويقارب الاستحالة التامة والناجزة، ما يعني تلقائياً إحالة “القضية ” على علم النفس وأبوابه الكثيرة وليس على أي “علم” آخر!

في حالات الاستبداد بالموقف والرأي من قبل صاحب السلطة يتسيّد التمسك بتلك السلطة، تبعاً لأعطياتها ومكاسبها وامتيازاتها وفخاماتها، ولقدرتها التامة على تغذية البشري بمواصفات إلهية وبقدرات سلطوية تهواها النفوس الحائرة والساعية إلى التملك المفرط، وإلى لعب أدوار قدرية يدخل في ضمنها تقرير من يموت ومن يبقى! ومن يأكل ومن يضنى بالجوع! ومن يرتقي ومن يتقزم! وغير ذلك كثير من أشياء الدنيا وتفاصيلها .. ولكن ذلك في جملته كسر لمنطق هذه الدنيا وأهلها وتطاول على أسسها الأولى ونفي لمبدأها التسووي. للبشر أقدار وأدوار وهذه مهما تعالت لا تقارب القدرة على ادعاء صفات فوق بشرية، ولا على تغيير حقيقة أن الأرض الواطئة ليست سماوات عالية… محاولة ذلك من قبل أصحاب السلطات المستبدين لم تفضِ سوى إلى دمار مزدوج ذاتي وعام، وإلى تثبيت المعاينة الأولى بأن ترجمة الامتلاء بالنشوة السلطوية تدل على عدم سوية عقلية، وعلى شطط مرَضي ذي طبيعة طبية أكيدة!

صاحب السلطة في نواحينا أعمته تلك السلطة وجعلته مضبوباً على ذاته الطافحة، وساعياً إلى دوامها إلى ما بعد ساعتها الحتمية وهذا وارد في حساباته من خلال توريث صهره الخاص المُلك العام! والعمل على إتمام الهدف أيّا تكن الأكلاف، بما يعنيه ذلك من استباحة المشاع الجامع وإحالته مزرعة خاصة… وفي حالتنا الموصوفة توظيف الضنك والضنى، بل واعتمادهما وسيلة مضافة من وسائل السعي إلى التمكن والتسلط، بل واعتبار الكوارث المتأتية عن فعله الذاتي مؤامرات خسيسة لاحباط مسعاه وهدفه، وكسر دوره القدري شبه الإلهي في هذه الأرض البائسة، ولذلك وجب عليه التأكيد مرة تلو أخرى أنه لا يتزحزح ولا يتنحنح ولا شيء يمكن أن يهزّه من مكانه، فهو هو صاحب حق مطلق ولا حق للغير سوى الانصياع ، بل لا منّة في ذلك الانصياع، والوسطية الذهبية أو الفضية أو الماسّية هي في عرفه تساوي التنك ليس إلاّ، ومن يعتنقها يستطيع أن يستخدمها لتعبئة مياه البحر وشربه.

أنا أو لا أحد، هو مبدأ لا يشبه لبنان، ولا طباعه ولا أهله، لكن المخلوق الذي عندنا لا يعترف بذلك ولا يقّر به، بل تراه في بحثه المضني عن مكان في صف طغاة الشرق، يلعن الساعة التي ولد فيها في بلد لا مكان فيه لأمثاله… ولا إمكانية فيه لـ”بعث ” ولا أسدٍ ولا أبدٍ!

شارك المقال