عدت الى القاهرة من الخطاطبة بعد تجربة عمل قصيرة خلال شهور الصيف، استعداداً للعام الجامعي التالي. كانت الخطاطبة محظوظة كقرية مصرية، تشهد جانباً من استعدادات المصريين لعبور قناة السويس بعد ثلاثة اعوام من هزيمة يونيو (حزيران)، وكانت احدى شركات الإنشاءات المصرية تشارك في عمليات إقامة منشآت عسكرية حصينة هناك لحساب القوات المسلحة.
كل شيء في الخطاطبة كان يقول ان مصر ذاهبة الى الحرب اليوم، ومع ذلك فبساطة أهلها واقبالهم على الحياة بشغف ظاهر، قد يتركان انطباعاً غير دقيق، عن انشغال الناس بملذات الحياة، وبمواجهة أعباء المعيشة، وبأن الحرب ما تزال بعيدة.
واصل المصريون بعد هزيمة يونيو إقامة حفلات الزواج، والإنجاب بمعدلات مرتفعة، وكأنهم نسوا الهزيمة، كنت أشعر بالحنق كلما تصورت أن الناس قد نسوا ما جرى في سيناء، أو أنهم نسوا القضية برمتها، لكن الحقيقة أنهم كانوا يستعينون بالحياة على مواجهة الموت، وبالأفراح على التصدي للهزائم، كانوا كمن يشحن بطارية حياته، استعداداً لحرب طويلة.
دعيت في أول ليلة لي بقرية الخطاطبة الى حفل زفاف ابن العمدة، وكان شاباً يافعاً لم يتجاوز العشرين من عمره. كنت أتصور ليلة تنحي جمال عبد الناصر، أن مصر قد دخلت طوراً جديداً لأحزان مزمنة، لن تعرف معها لا الأفراح ولا الزيجات، و لا الإنجاب، لكن ما رأيته في قرية الخطاطبة مطلع شهر سبتمبر (أيلول) ١٩٧٠ كان غير ذلك.
كانت الأفراح وحفلات الزفاف تقام على قدم وساق، على بعد أمتار من مواقع يجري تهيئتها كمستودعات للسلاح، ومناطق للتدريب على عبور قناة السويس، شاهدت فيها لأول مرة تدريبات الجنود على عبور ترعة الخطاطبة في القوارب نفسها التي استخدمها جيشنا لاحقاً في العبور.
أحب المصريون كل فنون حب الحياة، أحبوا الرقص والغناء وحفلات الطرب، واستعانوا بكل هذه الفنون على عشق مصر، كنت تراهم يرقصون ويغنون في مناسباتهم، بعد يوم عمل شاق في مواقع إقامة الدشم الحصينة، ومستودعات الذخيرة، وغيرها من تجهيزات الاستعداد للحرب.
حفل زفاف ابن عمدة الخطاطبة، منحني بعض التجارب الحياتية الجديدة لأول مرة، فقد كنت أشاهد وأشارك للمرة الأولى في حفل زواج ريفي، رقصت فيه الخيول فوق ساحة ترابية جرى تخصيص جزء منها كغرفة ضيافة لكبار المدعوين، أقيمت جدرانها الثلاثة من صناديق خشبية تضم المئات من زجاجات البيرة ستيلا الخضراء، اما مكان الجدار الرابع فقد ترك مفتوحاً تعبر منه صواني الضيافة من الشاي والقهوة ومياه الشرب، بينما خصص ركن صغير لاشعال بعض الفحم الضروري للشيشة، عكف فيه أحد المساعدين على تجهيز حجارة المعسل وتزويدها بقطع من الحشيش أكبر قليلاً من حبة العدس.
بالأمر وتحت الضغوط، جرّبت البيرة والحشيش للمرة الأولى في ليلة زفاف ابن العمدة، لم يكن هناك ثلج لتبريد البيرة التي بدت لي مشروباً كريهاً، استطعت بفضل الأرض الترابية والظلام النسبي لغرفة الضيافة، التخلص من أكواب البيرة الفاترة بإفراغها في التراب، لكنني لم أستطع الافلات من مبسم “الجوزة” الذي مده لي أحدهم قائلاً: “مساء الخير”. أجبته: “مساء النور يا فندم”. عاود الرجل إلقاء التحية قائلاً: “بقول مساء الخير”، بينما كانت يده تمتد بمبسم الجوزة قرب فمي، ساعتها فقط أدركت أن لا مفر لي من جذب الأنفاس، سحبت نفساً عميقاً أطلقت بعده سحابة من الدخان الأزرق، بدا الأمر لي عبقرياً، لكنني لم أشعر برغبة في الاستزادة لولا إلحاح من حولي في ضرورة استهلاك الحجر كله.
عند انتهاء ليلة الزفاف، اكتشفت أنني لا أستطيع النهوض من مقعدي، فرأسي يدور وساقي لا تحملاني، أمسكت بحافة المقعد بكلتي يدي، كنت أشعر أن الكرسي تحتي يقف فوق ساق واحدة، وكنت أخشى أن أسقط أمام الحضور، ما يعرّضني للحرج ويثير شكوك أهل الخطاطبة في جدارتي بولوج عالم الرجولة.
أمسكت بذراع أحد الزملاء وغادرت المكان متكئاً على كتفه، حتى وصلت الى استراحة الشركة حيث كنت سأبيت ليلتي الأولى، وهناك ألقيت جسدي فوق فراش خشن، ونمت نوماً عميقاً حتى ظهر اليوم التالي، وعند الاستيقاظ تنبهت الى أن البيجامة التي أرتديها وكان لونها بيج سادة، قد أصبحت بيج منقط باللون الأحمر، بفعل البراغيث التي نشطت في مص دمائي أثناء النوم، من دون أن أشعر بها لحسن الحظ، بفضل أنفاس الحشيش العميقة التي كانت بالنسبة لي مثل تخدير كلي لجراحة كبرى، ما كان ممكناً أن أجتاز الليلة الأولى في ضيافة البراغيث لولا حشيش زفاف ابن العمدة .
مرت ليال ثقيلة في ضيافة براغيث الخطاطبة، كنت خلالها لا أملك سوى أن أنتظر وصول سيارة أحد المقاولين لتعيدني الى القاهرة. كنت قد عقدت العزم على إنهاء التجربة والعودة الى القاهرة بأي ثمن.
بعد أقل من أسبوعين استطعت العودة الى القاهرة، وفي مساء الثامن والعشرين من سبتمبر، استقبلت بعض الأصدقاء في بيتي وأمضينا وقتاً طيباً في لعب الطاولة والشطرنج. كانت معارك أيلول في الاْردن بين المقاومة الفلسطينية والجيش الأردني، قد توقفت بعد تدخل حاسم من جمال عبد الناصر، الذي استضاف قمة عربية طارئة كان هدفها الوحيد إنهاء الحرب الفلسطينية-الأردنية.
كنا نناقش الوضع في الاْردن منحازين الى جانب المقاومة الفلسطينية، تحت وطأة خطاب إعلامي منحاز بالكامل الى جانب ياسر عرفات الذي حاصرته قوات الملك حسين، الى أن تمكن وفد عربي ضم الرئيس السوداني جعفر نميري، وولي عهد الكويت الشيخ سعد العبد الله من تهريبه، والعودة به الى القاهرة، حيث جرى التقاط صورة “تاريخية” للمصالحة، ضمت الملك حسين وياسر عرفات والملك فيصل عاهل السعودية والرئيس جمال عبد الناصر.
انتهت قمة القاهرة بمصالحة رعاها عبد الناصر، الذي راح يودع ضيوفه العرب بمطار القاهرة، بينما خرجت أنا مودعاً أصدقائي حتى شارع شبرا، بعد أمسية حافلة بمنافسات الشطرنج، وحوارات السياسة حول جهود المصالحة الأردنية- الفلسطينية، كانت الوجوه طبيعية في الشوارع، فيما كانت المقاهي تعج بروادها، وبينما يشدو الشيخ نصر الدين طوبار من مسجد الخازندارة بتواشيح دينية احتفالاً بليلة الاسراء والمعراج، اقترب مني فتى أسمر كان صديقاً لشقيقي الأصغر، وهمس في أذني: “الريس جمال مات!”.
استوضحته: “ماذا تقول؟!”. فقال وهو يتطلع الى عيني يستحثها أن تصدق ما قاله: “قالوا كده في الراديو دلوقت!”.
كان الخبر صادماً بالنسبة لي، لم أصدق كلام الفتى الأسمر، لكن صراخ امرأة فلسطينية (أم جهاد) وانضمام جاراتها اليها، بدا كما لو كان تصديقاً بخاتم النسر على ما سمعته.. كنت أريد أن أختلي بنفسي، أريد أن أبكي من دون أن يراني أحد، أريد أن أستوعب الصورة وأن أحاول تحليلها وفهمها، عدت منكسراً الى البيت لأجد اسرتي تقيم مأتماً لرحيل الزعيم.
دخلت الى غرفة نوم أبي وأغلقت الباب خلفي وانخرطت في نوبة بكاء مر. كانت مصر كلها في هذه اللحظات أشبه بأسرة فقدت رجلها للتو.
بعد أقل من ساعة كانت مسيرات المصريين في الشوارع، تشيع الزعيم مبكراً، بغناء جنائزي موحد، لا أعرف من كتبه ولا من لحنه ولا من قام بتوزيعه، جماعات المصريين المنكوبين برحيل الزعيم راحت تردد:
” الوداع يا جمال يا حبيب الملايين.. الوداع
ثورتك، ثورة كفاح عشتها طول السنين.. الوداع
انت عايش في قلوبنا يا جمال الملايين.. الوداع
انت ثورة يا ناصرنا ضد كل الغاصبين.. الوداع”.
كنت أستطيع أن أتبين وسط صفوف المنكوبين، وجوه بعض أعضاء وعضوات الاتحاد الاشتراكي العربي (الحزب الوحيد آنذاك).. لم أخرج في صفوف من خرجوا، ولم أشارك بالغناء في مرثية الزعيم، كان المشهد بالنسبة لي مأساوياً، ليس لأن الزعيم قد مات، ولكن لأننا كشعب كنا نتصرف كيتامى وأرامل، لا نعرف ماذا سنفعل، ولا من سيتولى أمرنا وأمر البلاد من بعده، ولا الى أين ستكون وجهتنا المقبلة.
استمر تعاملي البارد مع الحدث المأساوي، حتى يوم تشييع الجنازة التي لم أشارك فيها مكتفياً بمتابعتها تلفزيونياً. لم أفاجأ بحشود الملايين من المشيعين المصريين، فالشعب قد أحب عبد الناصر كما لم يحب سواه، والرجل كان جديراً بهذا الحب.
شارك زعماء الاتحاد السوفياتي في تشييع عبد الناصر الى مثواه الأخير، وروى السادات بعدها في أول خطاب عام للمصريين بعد فوزه بالرئاسة خلفاً لعبد الناصر، كيف أن القادة السوفيات أبدوا أثناء مشاركتهم في تشييع جنازة عبد الناصر، استعداد بلادهم لتقديم كل دعم ممكن لمصر، قال السادات بلهجته الريفية المعروفة: “الاتحاد السوفياتي.. في الميتم، جاب الصينية وجه!”، في إشارة الى تقليد ريفي يقوم فيه جيران المتوفي بتقديم صينية عشاء الى أسرة المتوفي من كل بيت من بيوت الجوار. لكنه قام بعد أقل من عامين بطرد نحو عشرين ألفاً من الخبراء العسكريين السوفيات فيما أسماه “وقفة مع الصديق”!
ما زلت أذكر هذا المشهد المسرحي، حين حمل السادات معه الى مجلس الأمة، أهم وثائق عبد الناصر (الميثاق، وبيان ٣٠ مارس/آذار) وتركها على منصة الخطابة بالبرلمان، قبل أن يستدير لينحني انحناءة مسرحية أمام تمثال نصفي لجمال عبد الناصر، بينما كان يقول لنواب الشعب، انه سيسير على “خط عبد الناصر”. وهو ما لم يفعله في الشهور التالية حيث سار السادات عكس طريق عبد الناصر تقريباً، حتى شاعت بين الناس نكته تقول ان “السادات ماشي على خط عبد الناصر بأستيكة”.