التقيت به مطلع العام ١٩٩٤، في أيامي الأولى بجريدة “المدينة”، قال لي ان الجريدة قد أوقفته عن العمل بسبب غيابه المتكرر، وانه يرغب في العودة للعمل، لكنه لا يستطيع الالتزام بمواعيد حضور وانصراف كل يوم.
سألته: ماذا كنت تقدم للجريدة من عمل؟
أجاب بلهجة مصرية خالصة: “يا بيه أنا بترجم مقالات ودراسات وتقارير سياسية أجنبية، لكنني أقوم بالترجمة في البيت وأحضر لتسليمها لكم في القسم الخارجي، وموش عاجبهم، عاوزين يجبروني على الحضور كل يوم وهذا صعب جداً بالنسبة لي، فأنا لا أستطيع العمل والجلوس خلف مكتب، أنا لأسباب صحية أكتب منكفئاً على السرير!”.
طلبت منه أن يقدم لي ترجمة لمقال بمجلة “فورين بوليسي” الأميركية، وتبين لي أنه هو من يسدد من راتبه المحدود اشتراكات الدوريات الأجنبية التي يترجم منها.
جاءني في اليوم التالي، ومعه الموضوع الذي اتفقنا على ترجمته، وجدت نفسي بإزاء مترجم فحل، دقة عالية في بناء النص، واختيار المفردات، ومهارة ملحوظة في تقمص روح كاتب النص الأصلي.
حملت مقاله في يدي ودخلت الى مكتب رئيس التحرير.. سألته:
لماذا أنهيتم خدمات الزميل محمد علي باناجة؟!
قال: “هذا لا يريد أن يداوم في العمل، ولا ينتظم في الحضور، وقد حاولنا معه مراراً من دون جدوى”.
قلت: “هل تعلم ان لدينا في مصر صحافيين كباراً يسلكون سلوكه نفسه، وهل تعلم أن مؤسساتهم لا يعنيها حضورهم وغيابهم، بقدر ما يعنيها ما يقدمونه من أعمال متميزة، وهل تعلم أيضاً أن الرجل الذي يعد صفحات التسلية ومسابقات الكلمات المتقاطعة بالأهرام، لم يحضر الى الجريدة ولو مرة واحدة لأنه ببساطة لا يستطيع مغادرة فراشه؟”.
واختتمت مرافعتي قائلاً: “افتح صفحات الجريدة كل صباح، فأما من تجد عمله منشوراً فقد حضر، وان قالت كشوف الحضور والغياب انه غاب، واما من لم تجد له عملاً منشوراً، فقد غاب وان كان حاضراً أمامك”.
ابتسم رئيس التحرير وقال لي: “خلاص يا أستاذ نعيده على مسؤوليتك، وتتولى انت ادارته ومحاسبته.. ووافقت على الفور”.
كنت أستمتع بالحوار مع محمد علي باناجة، وأظنه هو أيضاً كان يستمتع بالحوار معي، فلم يكن له أصدقاء بالجريدة سواي، وكان يتشكك في مواقف الآخرين منه على نحو مرضي أحياناً، فإن وقع خطأ مطبعي في مقال له قال لي: “أصل انت موش عارفهم يا أستاذ.. دي مقصودة عشان يفسدوا مقالي”. ولم يكن يبوح أبداً بهوية هؤلاء الذين يستهدفونه ويتحدث عنهم بضمير الغائب مكتفياً بالتلميح من دون التصريح.
كان مدخناً شرهاً، وكنت أدخن الغليون، وقد نجحت في تحويله من تدخين السجائر الى تدخين الغليون، بحيث تفوقت غلايينه على غلاييني وبات مدمناً لتدخينها ولشراء كل مستحدث ذَا صلة بها.
لاحظت هوساً لديه، حد المرض، بعلم المصريات، روى لي بعض خلفياته معه، ومن بينها أن والده قرر أن يرسل أطفاله مطلع الخمسينيات الى القاهرة لتلقي العلم في مدارسها، وأنه قد استأجر مسكناً قريباً من فيللا أمير الشعراء أحمد شوقي بك (كرمة ابن هانئ) يطل على نيل الجيزة، وأقنع والدته بأن ترعى أحفادها في هذا البيت طوال العام الدراسي.
جلس محمد باناجة وأشقاؤه مع جدتهم بالقاهرة، وذات ليلة قررت الأسرة الذهاب الى السينما لمشاهدة أحد الأفلام العربية، لكن محمد باناجة أبى الذهاب معهم، وأصر على البقاء وحده بالمنزل، ثم غلبه النعاس بينما كان ممدداً فوق أريكة تعلوها نافذة عريضة تطل على شرفة بمواجهة النيل.
حين استفاق الطفل محمد باناجة من غفوته، رأى مشهداً، تغيرت حياته كلها بعده، فقد رأى إمرأة ترتدي ملابس فرعونية مثل تلك التي نراها على جدران معبد نفرتاري في أبو سمبل، تصطحب في يدها طفلة ذات ثياب فرعونية أيضاً، وتسيران معاً فوق سور الشرفة الحديدي المطل على نيل الجيزة، فلا هما تسقطان، ولا هما تخشيان السقوط.
أحداث كثيرة ومثيرة، شهدها محمد باناجة في طفولته القاهرية، أهمها هو ما فعله به مشهد المرأة الفرعونية وطفلتها. فقد تولد لديه اهتمام غريب ومثير بكل ما هو فرعوني، حتى بات متخصصاً بعمق في “المصريات”، وقد شاركته مراجعة ترجمته الفريدة لكتاب الموتى “الخروج الى النهار”.
حرصت بعد عودتي الى القاهرة على التواصل معه، بعدما علمت أنه انتقل -كدأب أسرته- الى القاهرة بعد تقاعده عن العمل، وزرته في مسكنه بضاحية المهندسين، في البناية نفسها التي كان يسكن فيها الفنان حسين فهمي قبل أن ينتقل الى وادي النخيل بصحراوي الاسكندرية. وقدمته للأستاذ ابراهيم عيسى ليكون كاتباً بصحيفة “المقال” التي كانت تنشر مقالاتي، لكنه كان يبدو متردداً في خوض تجربة الكتابة في مصر، على الرغم من علو كعبه كصاحب قلم شديد التميز وثقافة عظيمة التنوع.
على مدى الأسابيع الأخيرة، كان يلح علي خاطر الاتصال به أو زيارته أو دعوته لزيارتي، وكانت المشاغل اليومية ترجئ ذلك، واليوم فقط، وبينما كنت أشارك عبر مواقع التواصل في حديث عن علاقة بعض الغيبيات بالتاريخ الفرعوني، طلب مني أحد الأصدقاء رقم هاتف محمد باناجة لاستضافته في برنامج تلفزيوني، فقلت له انني لا بد أن أستأذن من صاحب الهاتف قبل أن أعطيك رقمه. وما ان ذهبت الى هاتف باناجة لأحدثه حتى تلقيت الرد الصاعق: لقد مات محمد باناجة قبل نحو عامين، وسافر جثمانه الى جدة حيث تم دفنه بالسعودية. مات محمد باناجة وفي جعبته الكثير جداً مما لم يبح به. وهذا أكثر ما يحزنني ويثير شجوني.
هؤلاء الذين يرحلون من دون بوح يتركون الانسانية يتيمة المعرفة، فالبوح هو مادة استمرار الحياة فوق هذا الكوكب.. بوحوا تصحوا.