لطالما تغنى العالم بأهازيج الوحدة والعولمة خلال الألفية الأخيرة، معتبراً إياهما بوابة لعصر جديد من التفاهم العابر للحدود والجغرافيا. لقد شهدنا انفتاحاً كبيراً على مستوى الثقافات والاقتصادات، وبدا كما لو أن العالم قد بدأ فصلاً جديداً يقوم على التعايش والتسامح. ومع ذلك، وكما يؤكد التاريخ دائماً، فإن السياقات العالمية تخضع لتقلبات لا يمكن التنبؤ بها تعيد تشكيل الواقع بأساليب غير متوقعة.
العولمة والانفتاح: فصول من الماضي
شهدت الألفية الأخيرة دخول العالم مرحلة غير مسبوقة من الانفتاح، حيث تجاوزنا الحواجز الجغرافية والثقافية، ناشداً تحقيق وحدة عالمية تسمح بتدفق الأفكار والأشخاص من دون عوائق. وقد ساعدت التكنولوجيا وسياسات في تعزيز قيم التسامح وترسيخ التعايش السلمي، ما أدى إلى نمو اقتصادي وثقافي كبير عبر القارات.
لكن مع ظهور جائحة كورونا، بدأ العالم يشهد تحولاً دراماتيكياً نحو التقوقع. أظهرت الجائحة بوضوح أوجه قصور النظام العالمي وأجبرت الدول على إعادة النظر في مفهوم الانفتاح. مع تطبيق القيود وإغلاق الحدود، بدأ مفهوم العولمة يفقد بريقه، ما زاد من الشعور بالحاجة إلى الاكتفاء الذاتي والتوجه نحو الحماية.
الحرب الروسية-الأوكرانية: تأثير على التقوقع
تعززت هذه النزعة نحو التقوقع بشكل أكبر مع اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، والتي لعبت دوراً كبيراً في تعميق شق الانقسام العالمي وإعادة إشعال نيران الخوف من الصراع. هذا الصراع لم يؤدِ إلى تصعيد التوترات الجيوسياسية وحسب، بل أيضاً إلى إعادة التفكير في الاعتماد الاقتصادي والسياسي بين الدول.
اليمين وعودة التطرف
برز اليمين المتطرف كقوة سياسية متزايدة الأهمية في أوروبا، مستفيداً من التوترات الناجمة عن الجائحة والصراعات الجيوسياسية. يعزز هذا التيار من الخطابات القائمة على الخوف والتقوقع، ما يثير القلق بشأن عودة الأحكام المسبقة وقلة التسامح. إن النجاح المتزايد لليمين المتطرف يهدد بإعادة تشكيل المشهد السياسي الأوروبي نحو المزيد من الانغلاق والخوف من الآخر.
إننا نرى أن المستقبل مجهول الآن ونحن على أعتاب عالم يتشكل من جديد، حيث يبدو أن التقوقع السلبي سيصبح مرة أخرى سمة مميزة للتوجهات العالمية. هذا التحول يهدد بعكس مسار العقود الماضية من الانفتاح ويعيدنا إلى زمن تتوقع فيه الدول والمجتمعات الخوف من بعضها البعض ومن التحديات القادمة. يتوجب علينا التفكير في كيفية بناء مستقبل يحافظ على المكتسبات الإيجابية للعولمة مع تعزيز القدرة على الصمود والتعافي في مواجهة التحديات الجديدة.