كانت مهمة ولافتة تصريحات زعيم “حزب الله” عن باخرة المازوت الإيرانية، لكن ما بدا أهم منها ولافتاً أكثر هو الإعلان شبه الرسمي من طهران بأن تلك الباخرة ليست هبة ولا منحة ولا مساعدة، أي ليست القصة من أولها إلى آخرها، مثلما أعلن السيد نصرالله وهو الذي التزم منذ زمن انشودة الدعم الإيراني المفتوح وتغنى به جهاراً نهاراً، ووصل إلى حد إرجاع كل أفضال المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي ومجمل تضحيات اللبنانيين، إلى ذلك الدعم تحديداً .
اللافت في إعلان طهران هو التشديد على أن باخرة المازوت مدفوع ثمنها من قبل رجال أعمال لبنانيين شيعة… وهذه لعمري نغمة جديدة جداً في تاريخ التعامل الإيراني مع لبنان في العقود الأربعة الماضية، بحيث إن النغمة المعتادة هي التشاوف بنفوذها في لبنان، ودعمها لحزبها فيه، وتمجيد انتصاراته بلهجة، المقصود منها تمجيد الذات وتأكيد نجاعة النهج المعتمد دستورياً وثورياً لمد النفوذ في الدول التي تشتمل على مواطنين شيعة (أو يزيديين في اليمن).
وهذا من حيث المبدأ. أما من حيث الاستطراد فإن الأمر يبدو أسوأ، باعتبار أن طهران لم تراع مواقف تابعها وعاملها وأيقونتها في لبنان، عندما قال وكرر مرة تلو مرةً بأن البديل عن القحط الحاصل في بلد الأرز سيأتي من إيران، وذهب على طريقته في تكبير الحجر إلى حدّ طرح الأمر على جمهوره واللبنانيين بالإجمال على أنه تحدّ لما يصفه بالحصار الأميركي العربي على لبنان لإسقاط مقاومته! وأن هذا التحدي سيبلغ مداه من خلال جلب المشتقات النفطية من إيران، وهي، إيران، تمد يدها المعطاءة برغم ظروفها المعروفة، وتكسر إرادة الأشرار بإذلال اللبنانيين وتجويعهم وتمديد عتمتهم وتحطيم قوة عملتهم الوطنية… إلى آخره!
الإعلان الإيراني عن الشحنة المدفوع ثمنها لم يلحظ شيئًا من كل الذي قاله نصرالله، بل الأدقّ ربما هو أنه تقصّد تكذيب كل ما سرده في هذا الشأن! وبطريقة غير مألوفة، وغريبة إلى حدَ مفاجئ.
وهذا يعني أمراً من اثنين: إمّا أن طهران تعتمد راهناً تكتيكًا خاصاً بلبنان تبعًا لحساباتها المتصلة بمفاوضات فيينا، ولا تريد تخريب مناخات تلك المفاوضات ولا التراجع عن التزامات يمكن أن تكون أعطتها لجهات دولية، أو تفاهمات محددة توصلت إليها مع الدول الغربية المهتمة بعدم تفجر البلد تحت وطأة أزماته الكبرى، ووضع ذلك في سياق رسالة حسن نية ودلالة على الرغبة بالوصول إلى اتفاق مع الأميركيين… وقد يكون ذلك ممكناً إذا أخذ بقياسات متعلقة بالمصالح الإيرانية العليا أو نتيجة اقتناع أصحاب القرار في طهران بوجهة نظر عاملهم في لبنان القائلة برغم الضجيج المضاد، بأن الوضع اللبناني وصل إلى نقطة خطيرة وغير مسبوقة وتهدد فعلياً بتدمير كل ما بني في العقود الماضية من “انتصارات وانجازات” لا ينزل توصيفها عن مصاف المدد الرباني والألطاف الإلهية! وعليه كان لا بد من خطوة مزدوجة لاحتواء الموقف ومنع وصوله إلى الانفجار في وجه الجميع. وتلك الخطوة توظفها طهران لمصلحة إرادتها الأكيدة بالعودة إلى الاتفاق ورفع الحصار والعقوبات من جهة، ويوظفها حزبها في لبنان لتلافي ثورة جوع داخل بيته وبيئته! وبأضرار مهولة، ولا يمكن لأي عدو خارجي أن يسببها أو يسبب بعضا منها، من جهة ثانية.
هذا احتمال أول. أمّا الثاني فهو أن القيادة الإيرانية صارت تشعر بالحرج الشديد أمام الإيرانيين، الذين يعانون الأمرّين جراء العقوبات الأميركية والغربية على بلدهم وتدهور أحوالهم في كل نطاق حياتي ومعيشي، ولم تعد (تلك القيادة) قادرة على تبرير ذلك الوضع المخزي بعد أربعة عقود من الثورة في دولة يفترض أنها غنية أو بالأحرى ليست فقيرة.
والواضح في الوعي العمومي الإيراني، أن السبب الأول في أزمات الجمهورية، مالياً واقتصادياً وخدماتياً ومعيشياً، وفي تدهور مستويات العيش، هو صرف ثروات إيران خارج إيران، وأول ذلك الخارج هو ثلاثي سوريا بشار الأسد ولبنان حزب الله وغزة حماس، قبل أن تنضم الجماعة الحوثية إلى اللائحة وتأخذ بدورها جزءًا حرزاناً من تلك الثروات!
ولا يدخل العراق في هذا السياق، باعتبار أنه كان ولا يزال متنفساً لإيران وليس همّاً عليها، وفيه حظيت بالمجدين: النفوذ السياسي والمكاسب المادية، وما صرفته على حلفائها وأتباعها هناك هو في الواقع من عوائد العراقيين وليس من كيس الإيرانيين!
ولا حصافة في تبخيس المعطى الداخلي الإيراني لمحاولة تفسير معنى الإعلان عن أن الشحنة النفطية مدفوع ثمنها، ولا تبخيس وعي قيادة الدولة إلى حقيقة مشاعر الإيرانيين حيالها، وإلى معنى أن تخرج التظاهرات بين الحين والآخر بشعارات منددة بالولي الفقيه شخصياً وبسلوك النظام عموماً وبسياساته التي حولت إيران إلى دولة منبوذة ومأزومة ومحاصرة ومعاقبة وفقيرة، وهو النظام الذي يعرف بالتاكيد الأرقام الحقيقية للمشاركين في التصويت في الانتخابات الرئاسية الأخيرة ومعنى ذلك… مثلما عرف سابقاً معنى أن يكتسح حسن روحاني ويفوز في الانتخابات الرئاسية ضد مرشحي المرشد في عامي ٢٠١٤ و٢٠١٨ تحت شعار “لا غزة ولا سوريا ولا لبنان بل إيران”.
وضع النظام في إيران مع ناسه، يشبه وضع حزب الله في لبنان مع بيئته، وهو ما استدعى ويستدعي مقاربات انفتاحية واضحة إزاء الخارج: من طهران إزاء الغربيين والأميركيين، وفي ضاحية بيروت إزاء اللبنانيين. لكن من كان يخطر في باله أن تصل حدّة الازمة القارصة في المكانين إلى مستوى “اضطرار” إيران إلى نفي “تهمة” مساعدة لبنان ولو بباخرة مازوت واحدة؟ والى تكذيب عاملها الأول فيه علنا وجهاراً نهاراً؟
الخبر صغير لكن دلالاته كبيرة.