حقائق في ذكرى الكيماوي

اكرم البني
اكرم البني

تتجدد هذه الأيام مشاعر الألم والحزن لدى السوريين مع حلول الذكرى الثامنة لأكبر هجوم كيماوي شنه النظام (21 آب 2013) ضد المدنيين في الغوطة الشرقية، وذهب ضحيته اختناقاً المئات من المدنيين العزل، مثلما يتجدد تأكيد بعض الحقائق المريرة التي رافقت تلك المجزرة.

الحقيقة الأولى، التي بات يدركها الجميع، هي أن النظام السوري حنث بتعهده تسليم مخزونه الكامل من السلاح الكيميائي بموجب تفاهم بين واشنطن وموسكو تلا مجزرة الغوطة، ولم يتردد، ما إن تفادى الضربة العسكرية الأميركية، في العودة لاستخدام السلاح الكيماوي في مدن خان شيخون والأتارب ومعرة النعمان، حتى بدا كأنه يريد أن يعلن وعلى الملأ، بأن ليس ثمة رادع يردعه أو يجبره على وقف جرائمه المشينة بحق أبناء الشعب السوري، وربما يتقصد أن يؤكد للعالم أجمع بأن سلطته قادرة على الإفلات من العقاب ولا تقيم وزناً أو اعتباراً للمجتمع الدولي وما أقره من معاهدات ومواثيق أممية حرمت أسلحة الدمار الشامل والإبادة الجماعية.

وهو أمر ليس غريباً على نظام ديكتاتوري، يزدري السياسة ولا يقيم للإنسان وزناً ويحكمه هوس الغلبة والهيمنة والنفوذ، ويتغنى بخبراته الفريدة على الكذب والمناورة لضمان استمرار سلطته وفساده، وتتصرف أركانه كأنها في معركة وجود أو لا وجود، وأن ليس من رادع يردعها في توظيف مختلف أدوات القهر والفتك وحتى آخر الشوط، بما في ذلك الأسلحة المحرمة دولياً لإرهاب الناس وإخضاعهم ووأد أية محاولة للمطالبة بحقوقهم البسيطة المشروعة، ما ترك ويترك البلاد مفتوحة على المزيد من احتمالات القتل والتدمير والتهجير، ويزيد الطين بلة وجود حلفاء يشاركونه جرائمه ويبذلون جهدهم لتغطيته أفعاله ومنع مثول المرتكبين أمام محاكم دولية لنيل العقاب الذي يستحقونه.

الحقيقة الثانية، تتعلق بواقع المعارضة السورية المشتتة والمرتهنة لهذا الطرف الخارجي أو ذاك، ما أضعف دورها إلى حد كبير في فضح وتعرية همجية النظام، وكشف عجزها عن استثمار مجزرة الكيماوي المأسوية وغيرها من مجازر البراميل المتفجرة، لكسب عطف الرأي العام العالمي القادر على الضغط على حكوماته لاتخاذ موقف صريح وحاسم تجاه هذه الجرائم ضد الانسانية.

ولعل ما خفف من معاناة الضحايا والناجين وعوض، جزئياً، قصور المعارضة السورية، هو وجود منظمات حقوقية تهتم بتوثيق جرائم النظام وارتكاباته، حيث بذلت ثلاث منظمات حقوقية دولية، هي “مبادرة عدالة المجتمع المفتوح”، و”المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”، و”مجموعة الأرشيف السوري”، جهوداً حثيثة لتوثيق القرارات والمعلومات والصور التي تثبت تورط أهم رموز النظام السوري بشن هجمات الكيماوي في الغوطة عام 2013 وفي خان شيخون عام 2017، ونجحت برفع دعوى ضد النظام ورموزه أمام المحاكم الألمانية والفرنسية، التي تلتزم بمبدأ الولاية القضائية الدولية ويمكنها محاكمة مرتكبي جرائم حرب ضد الإنسانية إن وقعت في أي مكان من العالم، ما وضع حجر الأساس ليس فقط لمحاسبة النظام السوري قضائياً على استخدام أسلحة الدمار الشامل، وإنما أيضاً لتعريته ومحاسبته سياسياً، وقطع الطريق على محاولاته فتح أبواب العودة إلى المجتمع الدولي، وتكريس موقف أممي منه باعتباره نظاماً مارقاً وخارجاً عن القانون الدولي.

الحقيقة الثالثة، استمرار عطالة المجتمع الدولي وعجزه عن وضع قرارات منظمته الأممية موضع التنفيذ، ليس فقط لوقف العنف وفرض معالجة سياسية للصراع السوري وإنما الأهم لردع استخدام الأسلحة المحرمة دولياً، ما أظهر صورة مخجلة لمؤسسات أممية ضعيفة وعاجزة عن تحقيق أي اختراق جدي لأداء واجبها بحفظ السلم والأمن وحماية المدنيين وحقوق الإنسان، كما أظهر الصورة النمطية المؤسفة لدول كبرى تستهتر بحيوات البشر، وتتوسل منطق الغلبة والمكاسرة في المنازعة على الهيمنة والنفوذ من دون أن تقيم اعتباراً لمبادئ التعايش الأممية ولمصالح الشعوب الضعيفة وحقوقها، زاد الطين بلة التراجع المريع خلال السنوات المنصرمة في وحدة البشرية حول قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتقدم ظواهر شعبوية وعنصرية تعلي من شأن خصوصيتها على حساب خصوصية الآخرين.

خلال سنوات من القتل والتدمير، لم يلمس المدنيون السوريون دوراً أممياً حاسماً ينصر مطالبهم المشروعة ويساندهم في وقف العنف ويضع البلاد على سكة حل سياسي، أو على الأقل يردع المجرمين عن الاستمرار في ارتكاب جرائمهم وخاصة استخدام السلاح الكيماوي، وكأن ثمة بلاء حل عليهم تحدوه سياسات دولية وعربية تجاه ما يكابدونه لا تجد تفسيراً لديهم سوى أنها “مؤامرة كونية ضدهم” تستسهل حيواتهم وأرواحهم وتتقصد إجهاض حقوقهم وحلمهم في الحرية والتغيير، ولا يغير عندهم هذه الحقيقة ما يصل إلى مسامعهم من تعاطف لفظي مع معاناتهم وإدانات فارغة لجرائم النظام وتكرار المطالبات برحيله، ولا حتى تشديد العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية ضد بعض الشخصيات السلطوية، والدعوة لمحاسبتها على ما ارتكبته.

لم يشهد التاريخ الحديث بؤرة صراع دموي عرفت هذا الاستهتار الدولي المخزي بالأرواح التي تزهق كما البؤرة السورية، والأنكى حين يتم ذلك بالأسلحة الكيماوية المحرمة دولياً وفي ظل ثورة الاتصالات ومشاهد مروعة تصل إلى كل بيت وتكشف للجميع محنة إنسانية يعجز اللسان عن عرضها ووصفها، فإلى متى تبقى سورية أسيرة هذا المصير المرعب؟ وإلى متى يبدو العالم، عرباً وعجماً، غير مكترث، وكأنه بشعوبه وحكوماته يتفرج على ما يتعرض السوريون له من الفتك والتنكيل والتعذيب وبأشنع الوسائل، من دون أن يتحرك جدياً لمنعه، أو على الأقل للتخفيف منه؟!

شارك المقال