كان بين طقوس دخول المعلم أو المعلمة إلى الفصل في جيلي، أن يقف التلاميذ تحية للمعلم لدى دخوله بعدما يأذن لهم بالوقوف قائلاً: “قيام”، ثم يتفرس في الوجوه كمن يبحث بينهم عن متهم بجريمة ما، قبل أن يأذن لهم بالجلوس قائلاً: “جلوس”. بعدها يطالع المدرس في السبورة السوداء خلفه، ويطلب من أحد تلاميذه، الأكثر طولاً في العادة، أن يتفضل بمسح السبورة إيذاناً ببدء الدرس.
ماسح السبورة، هو عادة الأكثر طولاً في الفصل، ويجلس في الصف الأخير، ولا أعرف حتى الآن لماذا كان في الغالب “بليداً” أو بين من يحصلون على أقل الدرجات عموماً.
في مارس (آذار) عام ١٩٥٨، بعد أسبوعين فقط من اعلان قيام الوحدة بين مصر وسوريا في ٢٢ فبراير (شباط)، دخلت المعلمة الى الفصل، ودعت أكثرنا طولاً الى مسح السبورة، ثم أمسكت بإصبع من الطباشير الأبيض، وكتبت عنواناً على السبورة كنت أراه لأول مرة، فقد كان كلمة جديدة على العين والأذن، كتبت المعلمة كلمة “الدستور” وخصصت الحصة بأكملها للحديث عن الدستور المؤقت لدولة الوحدة، من دون أن تقول لنا، ما معنى الدستور، ولماذا هو ضروري، وهل تستقيم حياتنا في غيابه أم لا تستقيم، ولا ما اذا كانت لنا فيه منفعة ما؟ فقط عبارات من الاشادة والتمجيد للخطوة العظيمة التي خطتها دولة الوحدة المصرية – السورية، من دون أدنى اهتمام بتوعيتنا كتلاميذ على قيمة الدستور وأهميته ونصوصه وحقوقنا فيه.
عدت الى البيت في نهاية اليوم الدراسي، وأنا مشغول بمحاولة معرفة ما هو الدستور، ولماذا تحتفي به مدرستنا؟ سألت ابن خالتي وكان يكبرني بنحو سبعة أعوام: “يعني ايه دستور؟!”. فأجابني ساخراً: “يعني لما تكون ح تدخل على بيت أو شقة لجار أو قريب، تقول دستور يا أسيادنا… يعني بعد اذنكم ممكن أدخل؟!”.
استأت جداً من استخفاف قريبي الشاب بسؤالي عن الدستور، كانت معلمتي في الصف الثاني الابتدائي، تحدثنا عن دستور دولة الوحدة، من دون أن توضح لنا ما معنى الدستور، ولا لماذا هو ضروري لتنظيم العلاقات بين الدولة ومواطنيها. وكنت أريد أن افهم، لكنني لم أَجد وقتها من يعينني على الفهم.
حاولت كتب “التربية الوطنية” وهي مادة كانت بين مناهج التعليم في جيلي بعد ثورة يوليو (تموز) ١٩٥٢، أن تقول لنا ما هو الدستور، لكن معلمينا رجالاً ونساءً لم يكن لدى أي منهم معرفة حقيقية لا بالدستور ولا بالتربية ولا بالوطنية.
لا أعرف إن كان هذا قد أفاد الفترة الناصرية أم أنه قد أساء اليها، فضعف الوعي العام بالحقوق الدستورية، قد سهل مهمة الحكم في تجاهلها، أو حتى انتهاكها في بعض الأحيان، وهو قد ساهم في انتاج أجيال لا تهتم بقواعد تنظيم علاقتها بالسلطة، وعلاقة السلطة بها.
عموماً، لم يمتد العمر بدستور الوحدة، فقد انهارت دولة الوحدة بـ “نكسة الانفصال” في ٢٨ سبتمبر (أيلول) ١٩٦١، واجهنا صدمة الانفصال بحالة من الإنكار خلعت عليها اسم “نكسة” واحتفظنا معها باسم دولة الوحدة “الجمهورية العربية المتحدة”، الى أن جرى الاعتراف بالواقع الجديد عام ١٩٧١ في الدستور الدائم الجديد بعد عام واحد من رحيل جمال عبد الناصر في ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠.
انهارت دولة الوحدة، قبل أن أعثر بين المصريين على من يساعدني في فهم معنى الدستور وأهميته، ولا أظن أن أحداً في مصر، الا القليل، كان يبدي اهتماماً بمحاولة الفهم، فقد كان شخص عبد الناصر هو الضمان الحقيقي بنظر غالبية المصريين، كان هو الضامن لحقوقهم، وهو من يضع الإطار العام للعمل الوطني بحسب ما يرتئيه، مناسباً لتحقيق المصلحة الوطنية العليا.
في حضور دستور الوحدة التي انهارت، أصدر عبد الناصر أهم وثيقة للعمل الوطني منذ يوليو ١٩٥٢، حملت عنوان “ميثاق العمل الوطني” الذي قرأه عبد الناصر بصوته أمام ممثلين لقوى العمل الوطني، شاركوا في ما سمي وقتها “المؤتمر الوطني للقوى الشعبية”، كانت لغة الميثاق الذي صاغه الأستاذ محمد حسنين هيكل، فخمة، عظيمة البناء، وكان يقع في عشرة فصول تلاها عبد الناصر بنفسه في اجتماع تخللته استراحة بعد الفصل الخامس.
كنت معجباً بشدة بنصوص الميثاق ولغته الفخمة، وكنت متأثراً بدرجة كبيرة بطريقة جمال عبد الناصر في تلاوته، حتى أنني كنت أحاكي طريقة عبد الناصر في الالقاء، ما دفع الأستاذ الشناوي مدرس اللغة العربية بالصف الأول الثانوي الى تكليفي بقراءة أحد أبواب الميثاق العشرة كلما حلت حصة القراءة. كنت متيماً بلغة الميثاق، وبأناقة عباراته، لكنني لم أكن أعرف ما ضرورة وجود ميثاق يبدو وكأنه أعلى من الدستور، ولا لماذا تلتزم سلطات الدولة بنصوص ميثاق قد يتضارب بعضها مع نصوص دستور مؤقت كان ما يزال سارياً على الرغم من انهيار الوحدة المصرية السورية. استدرجتني فخامة البناء اللغوي لنصوص الميثاق، الى منطقة الإعجاب به. وساهم كبار فنانينا مثل عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم في الترويج للتحول الاشتراكي الذي دشنه ميثاق عبد الناصر، ولا زلت أذكر كيف كانت دور السينما تسبق عروض الأفلام بأغنيات تروج للمشروع الناصري.
لا أنسى كيف رأيت محمد عبد الوهاب على شاشة سينما “ريفولي” قبيل عرض فيلم “وا إسلاماه”، وهو يغني من كلمات حسين السيد نشيد “دقت ساعة العمل الثوري”. كانت هذه العبارة قد وردت على لسان عبد الناصر نفسه في احدى خطبه، ثم التقطها حسين السيد وقام بتضفيرها مع الميثاق الوطني. يقول أحد مقاطع الأغنية:
“سبق الشعب كفاحه وزحفه وراح يبني له مكان
بميثاق يحمي مصيره ومجده وحياته كإنسان”
في الفترة الزمنية نفسها، غنى عبد الحليم حافظ من كلمات صلاح جاهين أغنية “المسؤولية” التي تحدثت عن التحول الاشتراكي مشيرة الى مكاسب سياسية حصل عليها المواطن البسيط “آديك آهو خدت العضوية… وصبحت في اللجنة الأساسية… أبو زيد زمانك وحصانك في الكلمة والخدمة الوطنية”.
الذين رددوا خلف كبار مطربينا هذه العبارات، لم يكن أغلبهم يعرف الفارق بين الميثاق والدستور، ولا وظيفة أي منهما، ولا معنى وجودهما معاً في وقت واحد، لشعب واحد، تحت سماء وطن واحد، ولهذا لا يمكن الحديث عن عمل سياسي خلال سنوات الفورة المصرية في الستينيات، كان هناك عمل يمكن اعتباره وطنياً يمضي خلف راية زعيم، ولكن لا يمكن اعتباره سياسياً، تحكمه أُطر الدستور والقانون.
لم أجد ما يرضي فضولي لفهم معنى الدستور وأهميته الى أن التحقت بكلية الحقوق، وبدأت دراسة مادة القانون الدستوري، على يد الدكتور فؤاد العطار أستاذ القانون العام.
كان فؤاد العطار أمين لجنة الاتحاد الاشتراكي العربي بجامعة عين شمس، ولا أعرف حتى الآن إن كان الرجل قد أجبر على شغل هذا المنصب، أو أنه سعى اليه بدافع “التقية” فقد كان ليبرالياً في جوهره، يؤمن بالتعددية السياسية ويدافع عنها في الجلسات الخاصة جداً، لكنه كان يدافع بحكم منصبه كأمين عام للجنة الاتحاد الاشتراكي بالجامعة، عن صيغة تحالف قوى الشعب العاملة، التي لا تقر بالتنوع ولا بالاختلاف ولا بالتعدد، وترى في الحزبية تمزيقاً للأوطان، وأذكر أنني سألته عن الفارق بين الثورة والانقلاب، فأعطاني إجابة براغماتية ملهمة، اذ قال لي: “وانت شاغل نفسك بالسؤال ده ليه؟!.. اذا نجحت فهي ثورة، واذا فشلت فهي انقلاب”.
شاركت في مناقشات دستور ١٩٧١، وأنا بعد طالب في السنة الثانية بكلية الحقوق، وشاركت في التصويت على الدستور نفسه الذي شطب اسم الجمهورية العربية المتحدة، واستبدل النجمتين الخضراوتين في العلم، بصقر قريش، الذي استثار الشاعر الراحل أمل دنقل، فكتب عنه لاحقاً: “عم صباحاً أيها الصقر المجنح.. عم صباحاً.. لم أر مثلك صقراً مستباحاً!”.
برحيل عبد الناصر في سبتمبر ١٩٧٠، كف المصريون عن القيام لدى دخول المعلم، وكفوا عن الجلوس حين يأذن لهم، وبينما احتاج أنور السادات الى كتابة دستور جديد، يفتتح به عقداً من التحولات، فإنه لم يعثر على طويل القامة الذي يمسح السبورة قبل أن تبدأ حصة السادات. الى أن تمكن من إطاحة رجال عبد الناصر في ١٥ مايو (أيار) ١٩٧١.
موقف المصريين مما أسماه أنور السادات “ثورة التصحيح” كان يعكس حيرة التيار الغالب الذي يطلق عليه عادة “رجل الشارع” إزاء ما جرى، فمقدار الشفافية آنذاك كان محدوداً، والحياة السياسية شبه مغلقة، من دون نوافذ تتيح إطلالة ولو خاطفة، ومن دون ضوء يتيح فض الاشتباك بين الصورة والظلال.
شعب الله المحتار، هو غالبية المصريين، التي تشغلها لقمة العيش عن كل شيء تقريباً، ولا تدع لها مجالاً للاختيار، حتى على طاولة الطعام، هذا الشعب المحتار، هو ذخيرة بعض الحكام، وهو في الوقت نفسه ذخيرة خصومهم أو منافسيهم.
هذا الشعب المحتار، الذي لم يحسم خياراته في أي وقت، إلا بمقدار تعلقها باللقمة، والهدمة، والمسكن، جاهز دائماً لمؤازرة حكامه، وجاهز دائماً أيضاً للتخلي عنهم إن فاض الكيل، أو إن لاحت للحرافيش عند خط الأفق صورة الفتوة العادل، الذي سرعان ما يغيره طول البقاء في الحكم، فيظلم مجدداً، ليثوروا عليه مجدداً، فالشرعية لمفتولي العضلات، إلى أن تسترخي عضلاتهم، بفعل الزمن، أو بفعل رخاوة استطابة العيش.
مع كل تغيير للسلطة، أو تبديل للحكم، يفتش الحاكم الجديد، بين المنسيين في الصفوف الأخيرة، عن ذلك البليد، طويل القامة، الذي سيمسح السبورة، ليبدأ الحاكم الجديد، كتابة تاريخ جديد، لم يكن قبله تاريخ. وهذا بالضبط ما فعله السادات في مستهل حكمه، تحت عناوين الشفافية والصدق وحقوق الإنسان، فبعد ساعات من اعتقال “مراكز القوى” في ما أسماه ثورة ١٥ مايو، خرج السادات بنفسه ليحطم بمعول في يده، مبنى سجن طرة، مؤكداً أن لا معتقلات بعد اليوم، لكنه اعتقل أطيافاً واسعة من النخب المصرية قرب نهاية حكمه، حتى أنه مات في حادث المنصة، بينما المعتقل الذي ضربه بمعوله قبل عشر سنوات يضج بزحام معتقلين من الأطياف المصرية كافة.