التحسس الأمني المفرط، لدى أنظمة سياسية مستبدة في جوهرها، كثيراً ما تنتج عنه مفارقات بعضها مضحك وبعضها الآخر مأساوي.
حملتني حرب أكتوبر الى قلب الحزب الأوحد الذي عشت أرفضه تحت كل مسميات تسمّى بها، من أول جبهة التحرير، والاتحاد القومي وحتى الاتحاد الاشتراكي العربي الذي جسد ما قدمه عبد الناصر باعتباره (تحالف قوى الشعب العاملة) بفئاته الخمس (العمال والفلاحون والرأسمالية الوطنية والمثقفون والجنود)، كانت صيغة تحالف قوى الشعب العاملة، تعبّر عن مأزق من أنتجوها للخروج بالوطن من مأزق تعددية سياسية جرى وصفها خلال سنوات ما بعد ثورة يوليو (تموز) بأنها “حزبية مقيتة” أو “نظام بائد”.
كنت وما زلت أرى في نظام الحزب الواحد ذروة الإقصاء والتهميش وتزييف المشاركة، وكنت أنظر بعين العتب واللوم والازدراء أحياناً إلى معارف وأصدقاء خاضوا انتخابات في ظل نظام الحزب الواحد، إلى أن ألقت بي يد القدر في التجربة، عندما خضت أول وآخر انتخابات داخل تنظيم الاتحاد الاشتراكي العربي، مطلع عام ١٩٧٥ عقب انتهاء حرب أكتوبر، فاكتشفت أنه ليس اتحاداً، ولا هو اشتراكي، ولا هو بالطبع عربي، فقد كان صيغة مصرية استلهمت نماذج اشتراكية في شرق أوروبا، وما زلت لا أعرف لماذا لم يستلهم عبد الناصر تجربة الهند مثلاً، حيث التعددية حقيقية، والانتخابات حقيقية، والمشاركة الشعبية حقيقية؟!
كانت صيغة تحالف قوى الشعب العاملة التي تبناها عبد الناصر، في ظني تعبيراً عن مأزق حكم، أكثر من كونها مخرجاً من مأزق حكم، فالفئات التي لم تكن ضمن التحالف، هي فئات جرى إقصاؤها لأسباب أتفهمها، لكنني لا أقدرها، والفئات التي جرى دمجها في التحالف، لم تستشر قبل الدمج، ولهذا فقد أعجبني جداً وعي أحمد فؤاد نجم بمأزق هذا التحالف الذي صاغه عبد الناصر، اذ تصدى نجم مبكراً لصيغة التحالف بقصيدة قال فيها:
“يعيش أهل بلدي.. وبينهم مفيش
تعارف يخلي التحالف يعيش
تعيش كل طايفه.. من التانيه خايفه
وتنزل ستاير بداير وشيش
لكن في الموالد.. يا شعبي يا خالد
بنتلم صحبه.. ونهتف يعيش
يعيش المثقف على مقهى ريش
محفلط مزفلط كتير الكلام
عديم الممارسه.. عدو الزحام
بكام كلمه فاضيه.. وكام اصطلاح
يفبرك حلول المشاكل قوام
يعيش المثقف.. يعيش يعيش يعيش
يعيش أهل بلدي.. يعيش التنابله
في حي الزمالك
وحي الزمالك.. مسالك مسالك
تحاول تفكر تهوب هنالك
تودر حياتك.. بلاش المهالك
لذلك
اذا عوزت توصف حياتهم
تقول الحياه عندنا
مش كذلك
وممكن تشوفهم في وسط المدينه
اذا مر جنبك.. أتومبيل سفينه
قفاهم عجينه.. كروشهم سمينة
جلودهم بتضوي.. دماغهم تخينه
سنانهم مبارد تفوت في الجليد
ما فيش سخن بارد.. بياكلوا الحديد
ما دام نهر وارد.. وجاي م الصعيد
تزيد الموارد.. كروشهم تزيد
وتسمع وتسلم.. بأن التنابله
أو الأكالين
حيسمح كبيرهم
ويعمل مقابلة.. مع الفلاحين
ويحصل تحالف.. ما بين الجميع
ونملا المصارف.. بدم القطيع
أطيع الخليفه.. وأطيع والديك
أطيع التنابلة.. دا مفروض عليك
وتزرع وتبعت لحي الزمالك
وحي الزمالك.. مسالك مسالك
تحاول تفكر تهوب هنالك
تودر حياتك بلاش المهالك
لذلك
اذا حد جابلك سيرتهم
تبسمل تكبر.. وتهتف كذلك
يعيش التنابله.. يعيش يعيش يعيش
يعيش أهل بلدي.. يعيش الغلابه
في طى النجوع.
نهارهم سحابه.. وليلهم دموع
سواعد هزيله.. لكن فيها حيله
تبدر تخضر جفاف الربوع
مكن شغل كايرو.. ما يتعبش دايره
لا ياكل ولا حتى يقدر يجوع
يا غلبان بلدنا.. يا فلاح يا صانع
يا شحم السواقي.. يا فحم المصانع
يا منتج.. يا مبهج
يا آخر حلاوه
يا هادي.. يا راضي
يا عاقل.. يا قانع
ما تتعبش عقلك.. في شغل السياسه
وشوف انت شغلك
بهمه وحماسه
وعود عيالك فضيلة الرضا
لأن احنا طبعا
عبيد القضا
ورزقك ورزقي ورزق الكلاب
دا موضوع مؤجل ليوم الحساب
كمان الصحافه.. ح تكتب في حالتك
وتنشر مناظر لخالك وخالتك
وتطلع يا مسعد عليك الغناوي
وتسمع بإسمك.. في قلب القهاوي
تحبك مشيره وبنات الجزيره
وقصة غرامك.. تشيع في الرداوي
يعيش عم مسعد.. يعيش يعيش يعيش
يعيش أهل بلدي”.
صدقت نبوءة أحمد فؤاد نجم، وأخفق تحالف أنتجه ناصر في صيانة نظام سياسي يديره السادات، فقد ترك الأخير صيغة التحالف الوهمي قائمة، حتى بعد انقلاب أبيض في ١٥ مايو (أيار)١٩٧١ أسماه “ثورة التصحيح”، أطاح فيه أبرز قيادات التحالف من رجال عبد الناصر، ممن أسماهم بمراكز القوى.
لم أحمل في أي وقت مشاعر إيجابية تجاه أي من القيادات التي أطاحها السادات ضمن ثورته، باستثناء الفريق أول محمد فوزي وزير الحربية (الدفاع) الذي تألمت كثيراً لإيداعه السجن من دون أدنى اعتبار لدوره المحوري في اعادة بناء القوات المسلحة عقب هزيمة يونيو (حزيران)، كان ما قام به هذا الرجل وسط عتمة الهزيمة سبباً كافيا للعفو عنه، لكنه أودع السجن رغم ذلك.
في الاحتفال بالذكرى السابعة لـ “ثورة التصحيح” في ١٥ مايو، استدعاني مكتب رئيس تحرير وكالة “أنباء الشرق الأوسط” الأستاذ محمد عبد الجواد، وأبلغتني سكرتيرته الزميلة لبنى نصار بالتوجه الى غرفة المندوبين، للمشاركة بالرأي في برنامج إذاعي يجري اعداده بمناسبة ذكرى ١٥ مايو.
في غرفة المندوبين وجدت نائب رئيس التحرير وعدد من مدراء التحرير، ولاحظت أنني المحرر الوحيد، كنت أصغر الحضور سناً وأقلهم شأناً، كانت المذيعة على ما أظن هي الزميلة ز.م، وكان المطلوب من الضيوف أن يشيدوا بما فعله السادات في ١٥ مايو، كنت بحسب الأقدمية والسن آخر المتحدثين، وكانت أمامي فرصة أن أتعلَّم من أساتذتي كيف أتصرف في مثل هذه المواقف، تحدثوا جميعاً من دون استثناء عن عظمة المناسبة وعن جسارة البطل أنور السادات، فيما كنت أفتش لنفسي عن مخرج، فأنا لا أستطيع أن أقول مثل قولهم، ولست مصدقاً ما قيل عن انحياز السادات الى الحريات والتعددية، كانت سبع سنوات كافية لفضح جوهر ١٥ مايو، باعتبار أنه كان صراع سلطة ولم يكن صراعاً من أجل الديموقراطية والحريات كما صوّرها إعلام السادات.
عندما حل دوري للتحدث، كنت قد توصلت الى صيغة مرضية لا تقتل الذئب ولا تفني الغنم، قررت أن أستخدم أداة الشرط (اذا).. قلت اذا كان ١٥ مايو يعني إغلاق المعتقلات الى الأبد فأنا مع ١٥ مايو، واذا كان ١٥ مايو يعني صيانة الحريات العامة واحترام الحياة الخاصة للمواطنين فأنا مع ١٥ مايو، واذا كان ١٥ مايو يعني حرية التعبير وحرية تداول المعلومات، وحق المواطن في المعرفة فأنا مع ١٥ مايو. لم يكن بوسع المذيعة ولا أي من الحضور أن يعترض على ما اقول والا بات مشككاً في ثورة التصحيح التي قادها السادات.
دعيت صباح اليوم التالي للمشاركة في برنامج إذاعي يتناول قضايا الحب والزواج، ولدى خروجي من المصعد بالطابق الرابع، وجدت الزميلة المذيعة التي قامت بتسجيل حلقة ١٥ مايو بمقر وكالة “أنباء الشرق الأوسط”، تقول لي بعتاب مرير: “كده برضه يا عبد المنعم.. حرام عليك تسببت في خصم ٣ أيام من مرتبي”. سألت ببراءة شديدة عما جرى وعلاقتي به؟ فأجابت بأن وزير الاعلام استمع الى الحلقة وأمر بمجازاة من قدمها.