في كل الأخبار والتحليلات والتوقعات المتعلّقة بالحرب، ترد أسماء الأطراف: “حماس”، “الجهاد”، الحوثي، “الحشد الشعبي”، “حزب الله”، إيران، إسرائيل، الولايات المتحدة… وأسماء مواقع وأمكنة: قطاع غزّة بكل مدنه ومخيماته، الحديدة، جرف الصخر، الضاحية الجنوبية، الجنوب اللبناني، الجليل الأعلى، الجولان، تل أبيب… أصبح نادراً أن تذكر تغطيات الاعلام في الخارج، العربي والأجنبي، لبنان أو سوريا أو العراق واليمن كدول أو أطراف معنيّة بالتصعيد وتداعياته، لأنها غير معنيّة في الواقع، وإنما هي بقع جغرافية وتجمعات بشرية صادرتها إيران كليّاً أو جزئياً لتدير منها وعبرها مشروع هيمنتها على الشرق الأوسط العربي، وقد وصلت به الآن الى لحظة تراها سانحة لانتزاع “شرعية” إقليمية لنفوذها عبر إنزال هزيمة بإسرائيل، أو تكتفي بمنازلة كبيرة غير حاسمة في انتظار المنازلة التالية. ولأنه ليس وارداً عند إيران ولا عند اسرائيل أن تعترفا بأي هزيمة، فإن خيارهما يبقى استمرار الصراع الى ما لا نهاية.
أصبح الخبراء والمحللون الغربيون أكثر صراحةً ويقيناً الآن في القول إن هجوم “حماس” في السابع من أكتوبر، بما فيه من بطولات وتهوّرات، لم يكن ضربة مباغتة لهيبة إسرائيل وصورتها لنفسها وللعالم وحسب، بل كان فخّاً “إيرانياً” لها، وقد اندفعت اليه بكامل وحشيتها فأضعفت “حماس” عسكرياً ودفّعت قطاع غزّة وأهله ثمناً قاسياً بشرياً وعمرانياً بات يهدد وجودهم، مع استمرار المعاناة من دون مقوّمات الحياة. ولم تتأخّر إيران في إضافة خنجر في الخاصرة الإسرائيلية ففتحت جبهة “الاسناد” من جنوب لبنان، وهنا أيضاً مني “حزبها” بخسائر كبيرة من كوادره ومقاتليه، وتعرّضت بيوت الأهالي في عشرات البلدات والقرى للدمار وأحرقت أراضيهم بالقنابل الفوسفورية، وكل ذلك قبل أن تتحوّل “جبهة الاسناد” الى “جبهة حرب كبرى”، كما وصفها أخيراً زعيم “حزب ايران/ حزب الله” حسن نصرالله.
ثم أدخلت إيران على الخط ميليشيات “الحشد الشعبي” المنتشرة في العراق وسوريا ليكون لها دور ضد القواعد الأميركية في الوقت المناسب، وكذلك ميليشيا الحوثيين اليمنية التي برزت أخيراً بمسيّرة “يافا” التي تفجّرت في تل أبيب، وبمهاجمتها السفن التجارية في باب المندب والبحر الأحمر منذ ما يربو على ثمانية شهور… وليس واضحاً مدى القدرات العسكرية لـ “حماس” في الضفة الغربية وهل يمكنها أو هل تريد فعلاً تفجير الوضع كمساهمة منها في “الحرب الشاملة”؟
كل هذه الأوراق والبيادق بدت جاهزة للحرب، وتستطيع أن تشعلها، لكنها لن تتمكّن من حسمها، ما لم تقدم إيران نفسها على الانخراط فيها مباشرة مهما طالت وتطلّبت من موارد عسكرية. صحيح أنها مجبرة الآن على الانخراط لأن اغتيال رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” إسماعيل هنية حصل على أرضها وشكّل تحدياً مباشراً لسيادتها وهيبتها، لكن يصعب الاعتقاد أنها متجهة الى حرب مفتوحة. وجاء تأكيد إسرائيل مقتل القائد العسكري لـ “كتائب القسام” محمد الضيف، بعد أسبوعين من استهدافه بالقصف على مواصي خان يونس، ليشكل صدمة تضاف الى مقتل قادة عسكريين آخرين مهمّين في أوقات سابقة. وعلى الرغم من أن تنظيمات مثل “حماس” قادرة على تعويض القادة الذين تفقدهم في مسيرتها، ألا أن تكاثر الخسائر في حرب لما تنتهِ بعد يفترض أن يقلق إيران التي تدرّب المقاتلين وتعدّهم عقائدياً.
ينطبق ذلك أيضاً على “حزب الله اللبناني” الذي نعى العديد من القادة الميدانيين خلال مرحلة اسناد غزّة قبل أن يفقد القائد البارز فؤاد شكر الذي وصف بأنه كان الأقرب الى نصر الله منذ غياب عماد مغنية ثم مصطفى بدر الدين. كانت حرب تموز 2006 ثم المشاركة في القتال داخل سوريا وفي تدريب ميليشيا الحوثي وبعض ميليشيات العراق ومجموعات خليجية معارضة قد وفّرت لـ “الحزب” إمكان تطوير كوادره لتتناسب مع تطوير قدراته العسكرية، حتى أصبح العنصر الأساسي لجبهة الجولان المتصلة بجبهة جنوب لبنان. وهناك إجماع على أن هذا “الحزب”، بما لديه من أسلحة، أخطر من “حماس” بأضعاف مضاعفة، عدا عن سيطرته على لبنان ومساحات واسعة من سوريا تمنحه إمكانات كبيرة للمناورة. غير أن القتل المستهدف الذي طاول قادته وعناصره كشف الاختراقات الأمنية التي تشوبه، ولا تختلف هذه الاختراقات عما انكشف منها في ايران وكذلك في غزّة بالإضافة الى سوريا والعراق، ذاك أن أسبابها يمكن أن تُختزل بأن النفوذ الإيراني يتعامل كمحتلّ مع المجتمعات التي يتطفّل عليها ولا يعترف بسقوف وضوابط لممارسات أتباعه.
عندما أكد نصر الله أخيراً أن ردّ حزبه على إسرائيل “آتٍ حتماً” كان يبلغ “الوسطاء” الدوليين أن الضغوط لن تجدي نفعاً، لكن قوله إن الردّ “محسوم ولا نقاش فيه” كان موجّهاً الى الداخل اللبناني كي يتقبّل دخول “مرحلة جديدة” من الحرب بعدما احتج بكل الوسائل السياسية على المرحلة السابقة، ثم استكان مرغماً. ولم يكن مأخذه على مبدأ “اسناد غزّة” بل على أسلوب يستدرج الحرب استدراجاً، الى أن أصبحت أمراً واقعاً مفروضاً.
للتذكير فقط، كان نصر الله في خطاب 3 كانون الثاني الماضي، بعد اغتيال القيادي الفلسطيني صالح العاروري، قال إنه “إذا فكر العدو بأن يشن حرباً على لبنان، حينها سيكون قتالنا بلا حدود وبلا ضوابط وبلا سقوف، ومن يفكر في الحرب معنا سيندم، لأنها ستكون مكلفة جداً”. ثم أضاف: “حتى الآن، نحن نحسب حساباً للمصالح اللبنانية، لكن إذا شُنّت الحرب على لبنان فإنّ مقتضى المصالح اللبنانية الوطنية أن نذهب بالحرب إلى الأخير من دون ضوابط”… أطلق نصرالله تهديده هذا قبل انقضاء ثلاثة أشهر من الحرب على غزّة، وآنذاك كما اليوم لم تكن هناك حكومة أو مرجعية مؤهلة لتنبيهه الى أن الكلفة العالية التي توعّد بها العدو ستكون أعلى في لبنان ولا يمكنه تحمّلها، عدا أنه يُخضع “مقتضى المصالح اللبنانية الوطنية” لمصالح إيران و”حزبه”، وبالتالي فلا هي “لبنانية” ولا هي “وطنية”.