“الأعلى للدفاع”: تهميش الرئاسة الثالثة

رامي عيتاني

في إطار التعديات على الدستور والتلاعب بالأصول والقوانين والأعراف، وفي زمن تسخير مؤسسات الدولة ومرافقها من أجل تلبية طموحات البعض الشخصية ومغامراته الدونكيشوتية، وفي ظل اعتياد اللبنانيين منذ نحو سنتين على انتظار اجتماعات المجلس الأعلى للدفاع لاتّخاذ القرار بالإقفال العام من عدمه، ومواظبة اللجنة العلمية المختصة في ملف الكورونا على رفع توصياتها إلى المجلس الأعلى للدفاع لدراستها وإقرار قرارات الإقفال والحجر وغيره… صار هذا الأمر مثيراً لحفيظة الكثيرين في لبنان أكثر من مرة باعتبار أن هذه المهمة تقع على عاتق السلطة التنفيذيّة لا غيرها، خصوصاً أن رئيس الجمهورية سمح للمجلس الأعلى للدفاع بأن يُصدر قرارات تنفيذيّة، ما يعني أنه تحوّل إلى شبه “حكومة مصغّرة” تحكم البلد والدولة بانفراد شبه تام.

هذا وقد ظهر جلياً لدى الرأي العام سلسلة من الانتقادات والاعتراضات اللاذعة حول أهداف المجلس الأعلى للدفاع وعمله، والتباينات حول الصلاحيات المناطة به وظروف انعقاده، وما إذا كانت تحمل أبعاداً سياسية خصوصاً مع استمرار تعثر الملف الحكومي، وسعي البعض إلى تظهير هذا المجلس كسلطة إجرائية تنوب عن حكومات تصريف الأعمال وعن بعض صلاحيات رئيس الحكومة نفسه، ما دفع هذا الرأي العام للقول إن هذا المجلس تحول من مجرد أمن ودفاع إلى قوة دفع نحو نظام رئاسي أحادي، من أجل تهميش موقع رئاسة الحكومة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة متجاوزاً صلاحياتها، التي ارتضاها اللبنانيون بموجب اتفاق الطائف، وصولاً إلى ضرب مبدأ الفصل بين السلطات بشكل فاضح.

وبلمحة سريعة عن المجلس الأعلى للدفاع فهو استناداً إلى القانون الصادر سنة ١٩٨٣ يتألف من رئيس الجمهورية (رئيساً للمجلس) ونائبه (رئيس الحكومة)، وعضوية وزراء الدفاع والداخلية والخارجية والمالية والاقتصاد، ويرأس أمانته العامة ضابط عام مجاز بالأركان في الجيش بمرسوم حكومي بناء على اقتراح رئيسها ووزير الدفاع، وبالتالي فهو مؤسسة إدارية وولادته وصلاحياته تستندان إلى قانون الدفاع الوطني الموضوع قبل دستور الطائف.

ووفقا لهذا القانون يدعى المجلس الأعلى للدفاع للاجتماع من قبل رئيسه أو بطلب ثلث أعضائه على الأقل، على أنه لا يمكن انعقاده الا بحضور رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة اللذين يديرانه سوياً.

أما عن صلاحيات المجلس، فهو يقرر الإجراءات اللازمة لتنفيذ السياسة الدفاعية كما حددها مجلس الوزراء، حيث يولي أهمية خاصة للتعبئة الدفاعية التي تتناول القضايا الأساسية: كالخدمة العسكرية، والتجنيد الإجباري، والتعبئة التربوية، وتعبئة النشاط الاقتصادي بفروعه الزراعية والصناعية والمالية والتجارية، بالإضافة إلى تعبئة النشاط الصحي والطبي وتعبئة الإرشادات والتوعية.

ويوزع المجلس الأعلى للدفاع المهام الدفاعية على الوزراء والأجهزة المعنية ويعطي التوجيهات والتعليمات اللازمة بشأنها ويتابع تنفيذها.

هذا وترتبط صلاحيات المجلس الأعلى بالحالات التي تشكل خطراً على السلامة العامة، فإذا تعرضت أراضي الدولة أو سكانها للخطر يمكن للمجلس أن يعلن حالة التأهب الكلي أو الجزئي، كما يمكنه إعلان حالة التعبئة العامة لتنفيذ كل أو بعض الخطط المقررة، على أن تتخذ جميعها بمراسيم في مجلس الوزراء.

لكن السؤال المطروح حول ممارسات المجلس الأعلى للدفاع الأخيرة ومحاولاته الحلول مكان مجلس الوزراء في صلاحياته الدستورية، وعن تجاوزاته مبدأ الفصل بين السلطات.

نؤكد هنا أن المجلس الأعلى للدفاع ليس جهة تعلو فوق مستوى الحكومة أو أن سلطته أعلى من سلطتها، وهو ليس بديلاً عنها أو له الحق بأنه ينوب عنها أو يتقمص دورها، حتى في ظل فشل مساعي تعويم حكومات تصريف الأعمال وتعثر محاولات تشكيل حكومة جديدة فإنه لا يمكن للمجلس الأعلى للدفاع أن يتجاوز صلاحياته، علماً أن القانون يحدد له بوضوح نطاق عمله لجهة تنفيذ مهامه لكن كما تحددها الحكومة ونشدد على عبارة الحكومة هنا فقط.

لذلك يعتبر البعض أن الكثير مما ذهب إليه المجلس مؤخراً، أن بسبب جائحة الكورونا أو بسبب الأزمة المالية الخانقة، فانه يحمل تجاوزاً حقيقياً في الصلاحيات، ولا يعفيه من مسؤوليته المشتركة عن الفشل في إدارة الأزمات بعد محاولات إقحامه في أجندات سياسية وتفاصيل خدماتية واجتماعية هي أصلاً من صلب عمل الحكومة ومسؤولياتها حصراً.

ويرى هذا البعض أن المجلس الأعلى للدفاع يصدر توصيات عامة يرفعها لمجلس الوزراء الذي يتخذ قرارات بشأنها. وحتى على الصعيد الأمني فإن الحكومة هي من تصدر القرارات حيث يتولى المجلس الإشراف على تنفيذها متى كانت مرتبطة بالأمن.

وبرأينا لا مبرر لانعقاد أي هيئة من أي نوع من أجل القيام بأعمال الحكومة التي وحدها مضطلعة دستورياً بالسياسة التنفيذية، ولا أحد يحل مكانها حتى لو كانت حكومة تصريف أعمال، علما أن جلسة مجلس الدفاع مؤخراً كرست إدارة الدولة بانفراد شبه تام، حيث يرى أكثر من طرف أن الدعوات الرئاسية لاجتماع مجلس الدفاع من دون حضور رئيس حكومة تصريف الأعمال هو سعي مباشر أو غير مباشر لأخذ النظام اللبناني إلى نوع من النظام الرئاسي، بدل بقاء السلطة التنفيذية بيد الحكومة مجتمعة.

إقرأ أيضاً: استياء في بعبدا… دياب لعون: لا لن أتجاوز الدستور

كما ويرى البعض أن قرارات مجلس الدفاع الأعلى قد تجاوزت نطاق مهامه وقد تحول إلى ما يمكن وصفه بـ”مجلس حكم أعلى” يتجاوز مجلس الوزراء، الذي يفترض أن تناط به وفقاً للمادة 65 من الدستور “السلطة الاجرائية وهي السلطة التي تخضع لها القوات المسلحة، ومن الصلاحيات: وضع السياسة العامة للدولة، والسهر على تنفيذ القوانين والأنظمة والإشراف على أعمال كل أجهزة الدولة من إدارات ومؤسسات مدنية وعسكرية وأمنية بلا استثناء”.

وبرأينا فإن قرارات هذا المجلس خارج القانون مخالفة للدستور وقابلة للإبطال، حيث لا يصح تعويم حكومة تصريف الأعمال بشكل مخالف للمادة ٦٥ من الدستور، لأن كل ما يحدث مجرد هرطقات قانونية ودستورية، إذ يحاول البعض فرض سيطرته على جميع المؤسسات الدستورية الأخرى. وبالتالي، فانه وان كان صحيحاً أن معارك الصلاحيات ستنتهي قريباً، وإن كان صحيحاً أن ما يعني اللبنانيين اليوم ليس صلاحيات المراكز الطائفيّة بقدر ما تعنيهم أمورهم المعيشية وغريزة البقاء على قيد ​الحياة، إلا أن ذلك لا يعفي من يتقصد استغلال الظرف الآني للعب في الثغرات والاجتهادات والتفسيرات الدستورية، من أجل تعديل الصيغة التي اعتاد عليها اللبنانيون منذ اتفاق الطائف إلى اليوم.

والأصح أكثر أنه لو كان هنالك قضاء في لبنان لكانت القرارات الصادرة عن المجلس الأعلى موضوع طعن لعدم دستوريتها.


* رامي عيتاني | المستشار القانوني لموقع “لبنان الكبير”

شارك المقال