أغبط هؤلاء الذين نشأوا في الريف أو ارتبطوا به، وأعتبر أن تجربتي الانسانية ناقصة كوني لست ريفياً، ولم ترتبط نشأتي بريف مصر. أحسد أيضاً أولئك الذين أدوا الخدمة العسكرية، فهي أيضاً تجربة إنسانية، حرمتني منها المقادير، تضيف الى صاحبها الكثير.
تجربتي مع التوجيه السياسي بمنظمة الشباب الاشتراكي في أعوامها الأخيرة، منحتني شكلاً ما من أشكال التعويض عن نقص تجربة الجندية، وكذلك عن غياب تجربة الحياة في ريف مصر. خلال أسابيعي الأولى كموجه سياسي في المنظمة، عملت بمعسكر الشباب في دمنهور، هناك التقيت بالريف فكراً، وتجربة، وبيئة.
كان معهد دمنهور الاشتراكي الوحيد بين نظرائه في مصر الذي جرى تزويده بمطبخ آلي تلقاه المعهد على سبيل الهدية من نظيره في ألمانيا الشرقية، كان الطعام نظيفاً، خالياً من شبهة التلوث، لكنه كان عديم الطعم، وغريب الشكل، ما دفعني الى رفضه، واضطررت الى مغادرة المعهد في موعد الغداء كل يوم برفقة صديقي الصحافي شوقي دياب، لنتناول غداءنا في أحد مطاعم الكباب بميدان المحطة، ثم نحتسي الشاي في أحد المقاهي الراقية بدمنهور، قبل أن نعود مجدداً الى المعهد للقيام بمهمة التوجيه السياسي.
لكل معسكر مسؤول سياسي يتولى مسؤوليات القيادة والإشراف السياسي والاداري. كان سيد طاحون هو مسؤول سياسي معسكر دمنهور في تلك الفترة، استدعاني سيد طاحون ومعي شوقي دياب الى مكتبه، وأبلغنا أن الأجهزة الأمنية رصدت تحركات “مشبوهة” لنا وسط الفلاحين، وأن فريقاً من المحققين سيصل المعسكر للاستماع الى أقوالنا.
لم أفهم ما المقصود بـ “تحركاتنا المشبوهة” وهل تناول ربع كباب وسلطة هو من قبيل هذه الأنشطة المشبوهة كما تقول تقارير الأجهزة الأمنية، أم أن تناول شاي في أحد المقاهي هو عمل من أعمال استفزاز السلطة؟ رحت أنا وشوقي دياب نراجع معاً، أين ذهبنا؟ من رأينا؟ مع من تحدثنا؟ ماذا قلنا؟ وماذا قيل لنا؟ كيف كان خط سيرنا منذ الخروج من المعهد للغداء وحتى عودتنا بعد العصر لخوض المرحلة المسائية من عملنا في حلقات نقاشية مع جمهرة من شباب مصر جاءوا، أو جيء بهم من جميع محافظات مصر؟! الى أن تذكرنا أننا تمشينا حتى دخلنا أحد الحقول وقد جذبتنا رائحة زهور البرتقال الرائعة، ثم جلسنا قرب بئر ساقية مهجورة، كان يجلس بالقرب منها بعض المزارعين وقد تحلقوا حول ركوة نار تعلوها علبة من الصفيح يغطيها الهباب من كل اتجاه، يتسلل منها بخار يحمل عبق أجمل وأطيب شاي عرفته حتى تلك اللحظة. لاحظ المزارعون أننا غرباء، نرتدي ملابس أفندية، كانت عبارة عن يونيفورم أزرق، يرتديه عادة عناصر التوجيه السياسي بمنظمة الشباب، ألقوا علينا التحية، ودعونا الى تناول قدحين “خمسينة” من الشاي، رحبت جداً بدعوتهم ورأيتها فرصة لتعويض بعض النقص في تجربتي الانسانية الناقصة. افترشنا الأرض مع الفلاحين وجلسنا نستمع وننصت ونراقب أكثر مما نتكلم، ومع ذلك فقد اتهمتنا تقارير أمنية جرى ابلاغها لمسؤول المعسكر (طاحون) أننا كنا نحرّض الفلاحين على الثورة، وبناء عليه فقد تقررت احالتنا على التحقيق بمقر الأمانة العامة للاتحاد الاشتراكي العربي بمحافظة البحيرة.
كان أنور السادات قد وضع عديله، زوج أخت السيدة جيهان السادات حرم الرئيس، السيد محمود أبو وافية، في منصب الأمين العام للاتحاد الاشتراكي بالبحيرة. كانت الشائعات تتحدث عن فساد الرجل، وعن تستر السادات عليه، لكن الحلاق الخاص بأبو وافية، والذي عرفته عن طريق الصدفة بينما كان يصفف لي شعري (قبل أن يجتاح الصلع رأسي) أطلعني على جوانب خافية من حياة أبو وافية، لا تقل اثارة وفساداً عما يتداوله المصريون بشأن ثروات الرجل وفساده.
دعينا لحضور احتفال أمانة الاتحاد الاشتراكي بالبحيرة، في ذكرى المولد النبوي، بمقر الأمانة العامة التي كان من المفترض أن نمثل فيها للتحقيق معنا (تنظيمياً) بتهمة تحريض الفلاحين على الثورة. انتهزت فرصة الاحتفال وقررت الصعود الى مكتب أبو وافية، وهناك التقيت الرجل، ولاحظت استعداده السريع لتفهم الحقيقة، وطي صفحة التحقيق المفترض.. لا أعرف إن كان الرجل متسامحاً بطبعه، أو أنه يعرف طبيعة أجهزته واستعدادها لتلفيق التهم حسب الطلب، أو بقصد اكتساب المزيد من الحظوة لدى الرؤساء.
كان السمع والطاعة، هو المطلوب من عناصر العمل السياسي آنذاك، سواء داخل منظمة الشباب، التي اعتبرها أمينها العام د. عبد الحميد حسن منصة لأحلامه الذاتية جداً، أو داخل الاتحاد الاشتراكي الذي عانى من حالة شيزوفرينيا حادة، بعد ما أسماه السادات ثورة التصحيح في ١٥ مايو (أيار) ١٩٧١.
كان فريق من القيادات الوسطى في الاتحاد الاشتراكي، يترحم في جلساته الخاصة، على أيام عبد المحسن أبو النور وعلي صبري وشعراوي جمعة، بينما يشيد في الجلسات العامة ببطولة الرئيس المؤمن وجسارته. رأيت هذا النموذج وعايشته، وعندما خضت تجربتي الأولى والأخيرة في انتخابات عامة، داخل الاتحاد الاشتراكي، كان بوسعي أن أرى احتشاد الغالبية للانتفاع من نظام يناصبونه العداء ويتحينون لحظة سقوطه، لينهشوه.
علاقة جماعة الإخوان بالاتحاد الاشتراكي، لم تكن معدومة كما يظن البعض، فقد رأيتهم بأم عيني يخترقون التنظيم الذي أسسه عبد الناصر، وغنى له عبد الحليم حافظ، كان بين المرشحين الاخوان للعضوية عن أمانة القاهرة، أستاذ في جامعة الأزهر اسمه محمد محمود شعبان وشهرته الشيخ جمال، خاض الرجل الانتخابات بين مرشحي الفئات بدائرة جامعة الأزهر وفاز فيها، لكنه ترشح في توقيت متزامن عن الفئات أيضاً في دائرة قسم الساحل، والمذهل أنه وجد داخل التنظيم “الحديدي” من يدعمونه ويغضون الطرف عن مخالفاته. احتشد الاخوان خلف الرجل ليدفعوا باتجاه خوض انتخابات الأمانة العامة، واستطاعوا إطاحة فرصتي في الفوز، ليواسيني النائب أحمد طه عضو مجلس الشعب آنذاك، قائلاً: “ولا يهمك.. المناضل كالوتد كلما تلقى الضربات ازدادت قوته”.
الشيخ جمال، لم يكن وحده من استطاع اختراق التنظيم الحديدي، الذي أصبح بفضل سياسات أنور السادات أشبه بوعاء حافل بالثقوب، فقد استطاعت عناصر اخوانية كثيرة اختراق الاتحاد الاشتراكي، حتى قبل أن يلغيه السادات مدشناً المنابر الثلاثة (يمين، يسار، وسط)، والتي تحولت لاحقاً بقوة دفع من كامب ديفيد الى أحزاب مصر والتجمع والأحرار.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.