لن تصبح بطلاً في عين جمهورك ما لم تكن ملاحقاً من “أولاد آدم”، هكذا قالها لي “ي. ع” أمين الشباب في قسم الساحل بالقاهرة، في شتاء ١٩٧٣ بعد أسابيع من توقف المعارك على الجبهة.
كان يدير المفتاح بحذر، في درج مكتب من الصاج، رمادي الطلاء، في مستهل يوم من أيام العمل بأمانة شباب الساحل، ثم يعلق كخبير: “حد من أولاد آدم زار مكتبي بالليل.. بس موش ح يلاقوا حاجة.. أنا عامل حسابي!”.
لم أكن قد فهمت بعد ما المقصود بـ “أولاد آدم” لكنني عرفت لاحقاً أنه يقصد “المباحث”. لم يكن في نشاط الرجل، ولا في مواقفه ما يستدعي أن تلاحقه الأجهزة الأمنية، لكن أخبار الملاحقة بحد ذاتها كانت تجعل منه بطلاً شعبياً كما يحب أن تشيع صورته في أوساط الشباب.
أحد ثاني مسوغات الزعامة، بعد الملاحقة الأمنية كانت، أن أمين الشباب الذي تخرج ضمن الدفعة الأولى من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، كان زميلاً لهدى عبد الناصر في الدفعة نفسها التي زاملها فيها أيضاً الدكتور مصطفى الفقي.
كان “ي. ع” ناصرياً ينتمي الى أسرة برجوازية تعمل في تجارة الحديد، لكنه كان ينحاز الى عبد الناصر بالعاطفة أكثر مما يميل بالفكر، وكان ناقماً على ما جرى في ١٥ مايو (أيار) ١٩٧١ باعتباره انقلاباً على الناصرية، بينما كان (أنور) السادات قد اكتسب شرعية جديدة بعد حرب أكتوبر، بدأ يتصرف بعدها وكأنه لم يعد بحاجة الى شرعية يوليو (تموز).
الصراع السياسي في مصر بعد حرب أكتوبر، تمحور غالباً بين من يريدون استكمال ما يسمونه بالتحول الاشتراكي الذي بدأه الرئيس جمال عبد الناصر بقرارات التأميم في يوليو ١٩٦١، ووضع أسسه النظرية في الميثاق الوطني في مايو ١٩٦٢، وبين من يَرَوْن في حرب أكتوبر مصدراً جديداً لشرعية جديدة، تتيح إمكان النكوص عن كل ما جاءت به سنوات التحول الاشتراكي وتدشين ما عرف لاحقاً بـ “الانفتاح” الذي تحوّل مع الوقت الى عملية تفكيك وبيع كل ما أنتجته سنوات عبد الناصر من تحولات، فجرى تفكيك منظومة العلاج، ومنظومة التعليم، ومصانع القطاع العام، وحتى المصانع الحربية التي تحولت قرب نهاية السبعينيات الى مصانع للأجهزة المنزلية (غسالات وسخانات ومواقد غاز وأجهزة تلفزيون).
لم يكن إنجاز هذه التحولات، التي اشتملت بالضرورة على إلغاء أو خفض امتيازات كان الفقراء قد اعتبروها حقاً دستورياً مكتسباً لا يجوز المساس به، من دون أن يعتمد الحكم خلال سنوات السادات و(حسني) مبارك على من أسماهم البرجوازي “ي. ع” أولاد آدم.
تعاملت مع نظرية أولاد آدم، باعتبارها واحدة من أعراض أمراض القمع، كان وجودهم ضرورياً لوجود السياسة، حتى أنني كنت أظن أن بعض محدثي السياسة في مصر سوف يستحضرون أولاد آدم الى أي مشهد يريدون تسييسه أو تسويقه لدى جماهير، ظلت ترى أن السياسي الذي لم يتعرض للملاحقة أو الاعتقال أو التوقيف، لم يحصل بعد على صك ممارسة السياسة، وما زلت أذكر في أحد الاجتماعات التي ترأستها كمسؤول عن التثقيف في أمانة الشباب بقسم الساحل أن أحد الحضور وكان طبيب أسنان حديث التخرج اسمه “س. غ” بدا مشغولاً طول الوقت بطرح مواقف تبناها أو مقولات دافع عنها، مختتماً القول في كل مرة: “هل اذا فعلنا ذلك نصبح أبطالاً؟”، وكأنما أصبح طلب البطولة غاية بذاته! أو كأن مهمة العمل السياسي أن تهيئنا لاعتلاء منصات التتويج، لا لاكتشاف المشكلات وابتداع الحلول.
عموماً، كانت هذه الظاهرة، ملحوظة بين شباب رأى في عبد الناصر بطلاً شعبياً، وكان بعضهم يسعى الى إثبات أنه ملاحق أمنياً، باعتبار أن تلك الملاحقة هي أحد شروط الزعامة السياسية، ومن هنا جاءت نظرية أولاد آدم.
بدا واضحاً لي منذ بداية انخراطي في ممارسة السياسة أثناء حرب أكتوبر وبعدها، أن السياسة عندنا في مصر ولدت مشوهة، أو مبتسرة، وأن من مارسوها اعتادوا أنها كذلك، فهي دراما إنسانية تشتمل عندنا على “موالاة، ومعارضة، وبينهما مباحث” تماماً مثل ثلاثيات الدراما “زوج وزوجة وعشيق أو عشيقة”.
هذا المشهد ثلاثي الأطراف، أنتجته محاولات الحكم بعد إقرار دستور ١٩٢٣، التلاعب بنصوص الدستور، وتكليف أحزاب الأقلية بتشكيل الحكومات نكاية في حزب الوفد صاحب الأغلبية الشعبية الطاغية. واستمر طوال حكم الملك فاروق، وجمال عبد الناصر وأنور السادات، وحسني مبارك، وكان يستمد مسوغات جديدة لاستمراره في كل مرحلة، حتى بات جزءاً لا يتجزأ من التجربة السياسية في مصر ومحيطها الاقليمي كله.
حكاية الطرف الثالث “أولاد آدم” لم ينتجها “ي. ع” من العدم، لكنه وغيره، وجدوها فاعلة فاستخدموها!
ما زالت ذاكرتي تستدعي مشهد “ي. ع” وهو يدير مفتاح درج مكتبه الصاج الرمادي ماركة “ايديال”، وقد علت وجهه امارات خوف مصطنع، وكأنما عثر على أدلة دامغة تدين أولاد آدم بالتجسس على مكتبه الذي لم تكن فيه أوراق تذكر، عدا تلك التي كان يتلقاها من أمانة القاهرة في شارع صبري أبو علم (بنك قناة السويس الحالي) يخبرونه فيها، بترشيح بعض الشباب والفتيات للمشاركة في دورة تنشيطية بمركز شباب الجزيرة.