“في التيار أياد بيض وأياد خشنة، وعندما يوسخ أحد ما يديه داخل التيار يصبح خارجه، ونحن في التيار لا نعرف لا اليدين ولا القلوب ولا الأخلاق الوسخة”… جملة قالها رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل في مناسبة حزبية، في هجوم شنه على معارضيه داخل التيار، في إشارة علنية الى الخلافات المتصاعدة داخله، وذلك في أعقاب إقالة القيادي في “التيار الوطني الحر” ونائب رئيس مجلس النواب إلياس بو صعب، والتي أثارت جدلاً واسعاً داخل التيار وعززت الانقسامات التي تعصف به منذ فترة. تلك الجملة التي أطلقها، تلخص بصورة معبرة فكر جبران باسيل ونهجه وأداءه الأحادي التفردي والاستعلائي في قيادة التيار، من موقع رئاسته له، بعدما أورثه إياه عمه المؤسس العماد ميشال عون، ليتحول إلى “ميراث ذري”! فمنذ أن تولى باسيل رئاسة التيار، لم ينكفئ يوماً عن تدجينه ليكون على مقاسه، وأداة طيعة في يديه لتنفيذ أوامره وتطبيق سياساته، التي تنسجم مع مصالحه الضيقة وطموحاته الواسعة.
ربما كانت تلك الخلافات موجودة من قبل، والأرجح كذلك، لكن إمساك العماد ميشال عون بكل مفاصل التيار وتأثيره الوجداني على الحزبيين والمناصرين، قبل توليه رئاسة الجمهورية، كانا كفيلين بعدم إظهارها وتفاعلها، وبالتالي تأجيل تأجيجها بين مراكز القوى والتيارات داخل التيار، وذلك نظراً الى رمزية و”كاريزما” عون، الذي تمكن منذ حرب “التحرير” المزعومة من تكوين حالة شعبية على الصعيد المسيحي، استطاعت أن تحتل الصف الأول في أوساط المسيحيين، بعدما ضاقوا ذرعاً بالأحزاب “الميلشيوية”، خصوصاً وأن عون كان يرتكز ويستند الى الجيش اللبناني الذي كان قائده، ما أعطاه بعداً شرعياً.
وتسارعت الخلافات الداخلية بين العونيين بعد عودة عون من منفاه “الباريسي” المرفه، عام 2005، يومها اعترض عدد من قيادات التيّار على خياراته السياسيّة الجديدة، منهم المسؤول الاعلامي السابق في التيّار الياس الزغبي والقيادي المؤسّس عبد اللّه الخوري، إذ ان المشكلة بدأت منذ عودته من فرنسا في 2005 حتى 2006، عندما أراد نقل الحالة التي واكبته وتجييرها الى شخص صهره جبران باسيل، وهذا ما اعترض عليه الذين كانوا يمسكون بالتيار لمدة 15 عاماً في غياب عون، الأمر الذي دفع عدداً من قادة التيار “التاريخيين” الى الاستقالة، احتجاجاً على نهج التفرد الذي اتبعه.
واستمرّت الخلافات لاحقاً، وخرجت من التيار وجوه معروفة، أشهرها عام 2009 اللواء عصام أبو جمرة، رفيق درب الجنرال في الجيش والمنفى، وتوالت تباعاً الاستقالات والانشقاقات عن التيار، ومن أبرزهم: نعيم عون، بسّام الهاشم، أنطوان نصر اللّه، أنطوان مخيبر، رمزي كنج، طوني حرب، زياد عبس، كمال اليازجي، أنطوان عبد النور، أنطوان قصاص، ميشال دو شَدَريفيان، طوني حدّاد، رولان خوري، وصولاً الى صهر “الجنرال” شامل روكز. وبقيت الخلافات داخلية صامتة وضمن الـطر الحزبية، حتى انفجر الخلاف جدياً عام 2015 عندما جيّر الرئيس عون كل التيار إلى شخص باسيل من دون انتخابات داخلية مدعياً أن لا مرشح ضده ولا معارضة.
بالعودة إلى تصريح باسيل، الذي إستهلينا به المقال، فقد أتبع بجملة اقالات لنواب بارزين في التيار، ففصل كل من النواب زياد أسود وحكمت ديب وإلياس بو صعب وماريو عون وآلان عون وسيمون أبي رميا. ويرى مراقبون أن الاستقالات والتقالات، تعكس عمق الأزمة داخل “التيار الوطني الحر”، في ظل موجة رفض متصاعدة لسياسات باسيل في التعاطي مع عدد من الملفات الداخلية واستفراده بالرأي. ويشير المراقبون إلى أن باسيل كان دوماً يوجه رسائل تحذير الى القيادات والأعضاء المعارضين لتوجهاته، بأنه لن يتوانى عن إجراء حملة تطهير في صفوف التيار، وهو منطق أدى إلى زيادة منسوب الغضب تجاهه، وقوبلت بموجات متتالية من الاستقالات والإقالات على كل المستويات التنظيمية داخل التيار.
ويعتبر معارضو باسيل أن ما يريده من خلال عمليات الفصل، هو الاستئثار بقرارات التيار وإقصاء كل من يرفع الصوت للتعبير عن رأي آخر، بحيث يشكون من أدائه الذين يرون فيه تفرّداً في اتّخاذ القرارات، وحرصاً مبالغاً على التقرب من الميسورين مادّياً، وإعلاء شأنهم ومراكزهم حتّى ولو على حساب قياديّين معروفين بقربهم من قاعدة التيّار الشعبيّة. ويلفت المعارضون إلى أن جوهر الصراع مع باسيل أن ممارساته بعد تسلم التيار أدت إلى تدمير كل الإرث العوني، وبالتالي بات التيار بلا تأثير في صنع السياسة في لبنان، مضيفين: “الجنرال ميشال عون كان أقوى زعيم مسيحي على رأس أقوى تيار مسيحي في لبنان، وكان ممسكاً باللعبة السياسية في البلد، لكن أداء باسيل أدى إلى تراجع دراماتيكي لشعبية التيار، وبات الحزب لا يؤثر حتى في الشارع المسيحي”.
ويتابعون: “مأخذ المعارضين على باسيل أن التيار تسلم الحكم والرئاسة وكان على رأس أكبر كتلة نيابية، وعلى الرغم من ذلك يردد باسيل أنهم منعوه من العمل، ومن تنفيذ برنامج الإصلاح والتغيير. ونسأله: إذا كان لديه كل هذه السلطة ولم يفعل شيئاً، فكيف الحال اليوم؟”. ويشيرون الى أن باسيل يرفض إجراء أي تقييم للسنوات العشر الأخيرة، ومواجهته بأسئلة مصيرية تتعلق بتبديده إرث العونيين، بحيث يهرب إلى الأمام لدفع أخصامه إلى إفتعال المشكلات معه، ما يبرر طردهم. ويكشفون أن النظام الداخلي عدل 8 مرات، بما يتناسب مع إستئثار باسيل برئاسته، مستفيذاً إلى أقصى الحدود من دعم “الجنرال”، وهو ما زال مستمرّاً حتّى الانتهاء من جميع من يمكن أن يكون خصماً أو منافساً في المستقبل.
في المقابل، يذهب المقربون من باسيل إلى حد اتهام معارضيه بأنهم عملوا بدعم من السفارات على اضعاف عهد الرئيس ميشال عون وكسر هيبته، وإحداث شرخ داخل التيار، و”فتحوا على حسابهم”، وهذا ما تبين عندما خالفوا توجهات التيار، خصوصاً خلال جلسات انتخاب رئيس الجمهورية. كما يتهمونهم بأنهم حاولوا أن يمارسوا ما أسموها معارضة من داخل الإطار الحزبيّ، وهناك من رأى أنّهم تجاوزوا الخطوط الحمر حينما طرحوا فكرة مرشّح للرئاسة من النواب غير جبران باسيل، وهنا اتُّخذ القرار بإبعادهم تباعاً.
مع إستئثار باسيل بالتيار “العوني” تحول الى تيار “باسيلي”، إثر خلافات شخصيّة، وصراعات على السلطة، واستياء بعض الكوادر من انعدام الديموقراطيّة داخل تنظيمهم، وتجاهل نظامه الداخلي كلّياً “كرمى لعيون صهر الجنرال”، وبالأحرى أصبح التيار “العوني” خالياً من “العونيين”.