الميليشيا مكشوفة والمافيا مفضوحة والمهم “ما بعد الحكومة”

عبدالوهاب بدرخان

عندما يتمّ التركيز على ما تراه العين، يجري تضخيمه والإصرار عليه، ثم يروّج على أنه الحقيقة، لا بد أن يكون هناك أمر آخر يُراد اخفاؤه وألّا يكون في التداول العام، لكنه متداول جدّاً بين أطراف منظومة السلطة، تحديداً “حزب إيران/ حزب الله” و”التيار العوني”. هذا ينطبق على إبقاء لبنان لمدة سنة كاملة من دون حكومة، رغم هول الأزمة وشموليتها، ورغم علم هذه الأطراف بأن الانهيار المبكر للنظام المصرفي يؤدّي الى تهالك الاقتصاد، وبالتالي الى تلاشٍ تدريجي للنظام وضعضعة للمجتمع.

عندما تتصدّع الدولة وتعجز المؤسسات عن أداء واجباتها في تأمين الخدمات الأساسية، لا يعود للسياسة وأحزابها، موالية أو معارضة، رمادية أو انتهازية، أو حتى “ثورية”، أي دور أو كلمة. ثم يأتي دور استرهان المجتمع فيصبح إفراده هاجسين بكل شيء – خبز وغذاء ودواء وحليب أطفال وبنزين ومازوت وغاز وكهرباء وماء – إلا بما يحصل على الصعيد السياسي. هناك من “يساعدهم” على فقد الأمل في الدولة وما يُرتجى منها، لكنه لا يساعدهم على منجز حضاري تاريخي بتحييد الطائفية عن مصيرهم، وعن مصير الكيان اللبناني المتأرجح اليوم في مهب الريح. هم طالبوا ويطالبون بتغيير كل طاقم السلطة، ومنظومة السلطة تسعى الى تلبيتهم بتغيير النظام.

أما لماذا ينطبق هذا الواقع المخادع على الأزمة الحكومية فلأن كلاً من طرفي المنظومة لم ولن يتخلّى عن أجندته، مهما كانت الأثمان والصعوبات، مطمئنّاً الى أن الشعب وقع في فخّ حاجاته المعيشية فتراجع زخم مطالبه السياسية، ولأن طموحاته لا تزال مصدر تهديد لهذين الطرفين فإنهما يبحثان اليوم في كيفية اطاحة استحقاق الانتخابات. “الحزب” لا يقبل بأن يخسر “غالبيته” المعلّبة في البرلمان فهي أداة “مؤتمره التأسيسي” الحالم، و”التيار” أو جبران باسيل يؤرّقه أن يخسر مقاعد نيابية وطموحه الرئاسي الواهم.

حفلت ماراتونات ما يسمّى تشكيل الحكومة بكل أنواع الكذب والمراوغة والاحتيال، وإن رافقها سيلٌ من الكلام عن الدستور وتطبيقه وعن الميثاقية واحترامها وعن الصلاحيات الرئاسية وتفسيرها وعن حقوق هذه الطائفة وتلك وحتمية صونها… قد يكون كل ذلك صحيحاً بمقدار ما أنه كلّه هراء وتمرين على إضاعة الوقت، إذ أن طرفَي المنظومة مدركان أن مجرّد وجود حكومة حتى بأقل معايير السويّة السياسية، وإقبال الأطراف الدولية على التعامل معها لتنفيذ اصلاحات، وتأمين اجراء الانتخابات في موعدها، تؤخّر مشروع “الحزب” وتشكّل خطراً على أجندة “التيار”. لذلك فإن معركتهما على الحكومة والأطراف الدولية ناشبة في التشكيل، وستبقى قائمة حتى لو ولدت الحكومة، وستستمرّ مع مباشرتها عملها وتوغّلها في أدغال الأزمة.

مع ولادة الحكومة، إذا ولدت، سيقال إن رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف توصّلا الى “توافق” رغم كل الألغام التي زرعها الأول للثاني، أو يقال أن ميشال عون كسب المبارزة حول الوزيرين المسيحيين والحقائب التي يريد باسيل الاحتفاظ بها حتى لو أخفق في انتزاع وزارة العدل لأفعوانه سليم جريصاتي، أو يقال أخيراً أن نجيب ميقاتي نجح في تدوير الزوايا وحصل على الحكومة التي تسمح له بدعوة فرنسا والولايات المتحدة وسائر دول “مجموعة الدعم” الى المساعدة في “انقاذ لبنان”… ليكن معروفاً ومحسوماً مسبقاً أن “الحزب” وعون – باسيل لن يسمحوا بولادة الحكومة ما لم يكن لهم القول الفصل فيها، بثلث معطِّل أو من دونه.

استغرق الأمر عاماً من المماطلة والتسويف وألاعيب العرقلة لتثبيت المعادلات: لا لحكومة تفكّر مجرد تفكير في المسّ بالسلاح غير الشرعي أو بحركة “حزب إيران” وأيٍّ من مكاسبه، ولا لحكومة تنتزع من باسيل السيطرة على “وزاراته”، ولا مجال للأخذ بالمبادرة الفرنسية لكن لا مانع من ذكرها كمرجعية من قبيل التعمية… وفيما نجح ثنائي السلطة في تمييع الهدف الرئيسي (حكومة اختصاصيين مستقلّين) لأنه لم يشعر بأي ضغوط لتقديم تنازلات، كان همّه الأساسي ولا يزال أن تبقى الأوراق في يده لإدارة “ما بعد” حلحلة الأزمة الحكومية الراهنة. فـ “الحزب” و”التيار” يفكّران خصوصاً في “ما بعد”، وبعقلية المافيا والميليشيا: يجب أن تكون الحكومة العتيدة بلا أي سلطة سياسية، بمعنى ألّا تكون عقبة أمام تطيير الانتخابات والتمديد للبرلمان الحالي، وإذا تعذّر التمديد لميشال عون أن تكون مطواعة في مرحلة شغور رئاسي محتمل قد يرتأي “حزب إيران” فرضه مجدّداً.

في الوقت نفسه يفكّر “الحزب” و”التيار” معاً أو كلٌّ على حدة في “ما بعدَ بعد”، في “الخطة أو الخطط باء”، أي في خيارات الفدرلة والكنتنة والتقسيم وما إليها. لذلك لا يشعر اللبنانيون، ولا الأطراف الخارجية، بأن انقاذ الدولة والاقتصاد محورٌ لتشكيل الحكومة. المحور هو تأمين مستقبل “الحزب” و”التيار”، إذ أصبحا أكثر ترابطاً وكل ما يُقال عن خلافات بينهما مجرد ثرثرة. صحيح أن “الحزب” أكثر قوةً وثقةً بقدراته، إلا أن حاجته الى “التيار” محسومة كي يتمكّن أولاً من إبقاء القوى السياسية الأخرى مشرذمة مع ربط بعضٍ منها به، وثانياً من مواصلة إضعاف الرئاسة الثالثة والطائفة المرتبطة بها، وثالثاً من مواجهة العقوبات الخارجية من أي جهة أتت… أما إقدام الميليشيا على ضرب بعض مصالح المافيا، بكشف استنسابي لمستودعات الوقود والأدوية، فليس سوى استعراضات خادعة لإظهار قدرة هذا الثنائي على إدارة مرحلة الفوضى والارتطام.

شارك المقال