أيّها المواطن … أنت المذنب

د. أحمد عبدالله عاشور

رسالة إلى كل لبناني:

لا يخلو أي حوار في مجلس أو مجتمع أو حتى لقاء بين شخصين في لبنان، من استعراض أحد المواضيع الجوهريّة التي تشغل وتسيطر على السّاحة والحياة العامّة في هذا البلد الصّغير الذي عصفت به أحداثٌ جسامٌ لا تستطيع أن تتحمّلها أقوى الدّول وأعتى الشّعوب، انطلاقاً من مصادرة أموال المودعين في البنوك وانهيار العملة المحلية إلى مستوى متدن، وهموم الطّاقة من نقصِ الوقود من المازوت والغاز والبنزين وتخزينها بكميات كبيرة لبيعها بأسعار خيالية في السوق السوداء، الّتي أثّرت على مختلفِ أنواع الحياة والعمل سواء من انقطاع الكهرباء وتعطل النّقل والمواصلات وعجز المصانع والأفران والشّركات وتراجع الزّراعة وإقفال المولات والإدارات الحكوميّة والتّجارية والمطاعم والسّياحة والتعليم…..إلخ. كما لم يسلم القطاع الصّحي من هذه الأضرار ما أدى إلى انخفاض مستوى الرعاية الصحية واختفاء أنواع كثيرة من المعدات والمستلزمات الطبية، والأدوية من الصيدليات والمشافي، كما تأثر قطاع الاتصالات والإنترنت، وتوقف مضخّات المياه الّتي أدّت إلى نقصٍ حاد في المياه، وتبع جراء ذلك سلسلة من قصور الخدمات المهمة مثل تعطل كثير من الأجهزة الحساسة وحوادث الطرق وتراكم النفايات ونقص المواد الغذائية أو تلفها في المنازل، والازدحام الشّديد، وازداد الوضع سوءاً بتهريب الكثير من البضائع اللبنانية المدعومة للخارج وانتشار السوق السوداء على حساب الشعب اللبناني.

انتشرت الفوضى وتضخمت الأسعار، وعمّ الغلاء بشكلٍ مريع، وعلى الرغم من هذا الغلاء الفاحش مازالت رواتب وأجور الموظفين والعاملين في القطاعين العام والخاص على حالها، وبات الفقير أشد فقراً والجائع لا يجد قوت يومه وأصبح همّ الجميع توفير وتأمين ما يمكن لإطعام عوائلهم أو تخزين الوقود ليوم أسود ومستقبلٍ مظلم.

طوابير الذل والعار والهوان على الأفران لنيل ربطة خبز، أو صفوف السيارات أمام محطات الوقود لساعات طويلة ماهي إلا أولى علامات الاستسلام والخنوع لاستبداد القادة وإذلالهم لمواطنيهم ،وفقدان الشعب آخر ذرة من الكرامة وانهارت معه كل القيم والأخلاق.

هاجر من يستطيع أن يهاجر من أبناء الوطن، منهم العلماء والخبراء والعقول النيرة، ما تسبب في خسارة فادحة لدولة صرفت عليهم الكثير لتعليمهم. وانفصلت عوائل وتفككت أسر وهرب الميسورون من البلاد خوفاً على حياتهم. أصبح الجميع يتصرّف بأنانيّة مطلقة وحبّ الذّات، بل تحوّلَ بعضهم إلى وحوشٍ تتحيّن الفرص للانقضاض على الآخرين. انتشرت الأحزاب والأجنحة المسلحة وتحالفت أحزاب ضد أخرى. انتهكت القيم والقوانين والأنظمة وأبيحت التجاوزات مع غياب العقاب والإفلات من الملاحقة حسب المحسوبية والانتماء الحزبي، بينما ينظر البعض بعين الكراهية والحقد والعداوة لمن تسبّب في وصولهم إلى هذا الحال يتحيّن الفرصة للانتقام. مورست الطّائفيّة والحزبيّة والعنصريّة بشتّى صورها البغيضة وانتشرت مشاعر الكراهية بين أفراد مجتمعٍ مسالمٍ عاشَ دهراً سويّاً في سلامٍ ووئام.

كما قام الإعلام ووسائل التّواصل الاجتماعيّة بزيادة الصّراع اشتعالاً وبثّت الكراهية والشّقاق بين أفراد المجتمع الواحد، بما تبثّه من فقاعات إعلامية ومعلومات مسمومة ومغلوطة ومفبركة وتباروا في إعداد برامج واستضافوا عناصر هدامة.

لم يمر على لبنان مثل هذا الدّمار المريع، من أزمات اقتصادية وتخلخل الأوضاع الأمنيّة، وانهيار المنظومة الصحية والتربوية والاجتماعيّة وتفشي الانقسامات العرقيّة مثل ما أحدثته هذه الأوضاع الأخيرة، ومازال الوضع حرجاً والمستقبل غامضاً ومظلماً أمام فراغ حكومي وقرارات متسرعة وفوضوية وغبية وغير حكيمة.

الكل يتّهم الكل ويرمي الملامة على الآخرين في ما آلت إليه الأوضاع، ويبرّئ نفسه من أي تهمة. فقد الشعب ثقته بمسؤوليه وحكومته وفقدت الأطراف الخارجيّة ثقتها بمصداقية الحكومة اللبنانية.

من المخطئ ومن المصيب؟ تصدّق من وتكذّب من؟ تصاحب من وتعادي من؟ وتهادن من وتحارب من؟ الجميع مذنبون والكلّ أبرياء، والمسؤولون في موقف المتفرج لا هم لهم سوى تجميع أكبر قدر من الموالين لزعامتهم والمؤيدين لحزبهم والمدافعين عنهم شخصيّاً وواجهة أمام الآخرين، يصرفون بسخاء على جماعاتهم لضمان ولائهم ضدّ الآخرين. انتظروا وقوع الكارثة على الرغم من وجود عشرات الحلول لإنقاذ البلاد من هذه الكوارث ولكن الطمع والأنانية وحب الذات سيطر عليهم وفضلوه عن مستقبل بلادهم وحياة شعبهم، وكيف سمحت ضمائرهم بتدمير بلادهم وإبادة جماعية لأبنائه؟!

السّاحة أصبحت مرتعاً لحكم الغاب وملعباً للوحوشِ البشريّةِ الكاسرة التي تتأهّب لتحطيم أي عنصر يدعي الوطنيّة ويحاول إصلاح الأمور للنّيل منه لأنّهم يدركون تماماً بأنّ نهايتهم وخيمة وعقباهم شديدة في حال انكشاف أمرهم وفضحهم أمام الرّأي العام وبالتّالي سوف يستمرون في القتال بشراسة متناهية للحفاظ على مجدهم لأطول فترة ممكنة مع تحصيل أكبر قدر من المكتسبات الماديّة ومجد وقوميّة زائفة. لا يهمهم مصلحة الشعوب ولا صرخة الجياع والمحرومين ولا يهتمون بانهاكٍ اقتصادي وحرق للطبيعة ودمار البلد وهلاك البشر.

سوف يتّجه لبنان إلى حالة صدام مريع وإلى قاع هاوية سحيقة إذا لم يتدارك مسؤولية وتبعة ذلك والتلاحم سوياً لوقف التدهور.

الجميع يدّعي الوطنيّة كذباً ورياءً. لا يعرفون سوى اسمها دون أفعال ولا يظهرون ولاءهم لبلدهم إلّا عند سماع أغنية وطنيّة يرقصون عليها طرباً وتميل خصورهم وأياديهم نشوى من السكر، وعلى الرغم مما تحتويه هذه البلاد من عقول نيرة إلا أنهم افتقدوا حسن التدبير والتقدير.

لماذا ندّعي النّزاهة والبراءة والعيب كل العيب فينا جميعاً كأفراد قبل المسؤولين نحن الذين اخترنا القادة ومجدناهم ودافعنا عنهم وحاربنا بعضنا البعض من أجلهم خوفاً على سقوط زعيم أو حزب أو تعرض للطائفة أو اتّهام لشعار زائف؟

نعم أيها المواطن أنت المذنب الأول والأساسي في كل ما آلت إليه الأوضاع…

أنت المذنب لأنك من شارك باختيار هؤلاء الحكام مقابل رشاوى أو امتناعك عن التصويت تقاعساً منك والدفاع عنهم وتبرير أخطائهم…

أنت المذنب لعدم وطنيتك بالسكوت عن الأخطاء وعدم المطالبة بحقوقك والمشاركة في التنديد…

أنت المذنب لأنانيتك واهتمامك بنفسك وعائلتك قبل وطنك وتفضيل مصلحتك الخاصة على المصلحة العامة…

أنت المذنب لعدم قيامك بعملك كما يجب واعتمادك على الآخرين وتقبل الرشاوى وتعطيل أعمال المجتمع…

أنت المذنب لعدم التزامك بالتعليمات واستغلالك للفرص والمخالفة والتهرب من دفع الضرائب ورسوم الدولة المستحقة…

أنت المذنب لمشاركتك في هبوط عملة بلدك والتعامل في السوق السوداء، وتهريب المواد المدعومة من قبل الدولة خارج الوطن وعدم دعمك المصنوعات الوطنية…

أنت المذنب لتخزين الوقود والمواد الأولية والأدوية والأطعمة وحرمان مستحقيها من الاستفادة منها في وقتها، وإلقاء اللوم على التهريب لسوريا وهذه لا تتجاوز 10%…

أنت المذنب لعدم اتباعك الإرشادات الصحية والبيئية ومساهمتك في تفشي الوباء وإلقاء النفايات…

أنت المذنب لمخالفتك إرشادات المرور وسد الطرق وتخريب المنشآت

أنت وأنت وأنت … إلخ.

أخيراً أنت المذنب لأنك تبرر لنفسك بأنّ الكل يفعل ذلك وتقول: “شو وقفت عليي؟”… وهذا عذر القاصر.

كما قال الشاعر:

[table id=2 /]

هذا الوضع أضحى جزءاً مهماً من النّقاشات والنّسيج الاجتماعي اللبناني اليومي.

أيّها االلبنانيون أفيقوا من هذا السبات العميق وتحمّلوا المسؤوليّة، فالخطر القادم على بلادكم عظيم وخطيرٌ ومدمّر. سوف يأتي زمن تصبح العملات مهما بلغت قيمتها عديمة الفائدة لعدم توافر أو انعدام المواد والبضاعة في الأسواق أو غياب الأيدي الخبيرة من أطباء ومهندسين وعلماء …إلخ. كفّوا عن تمثيل دور المظلوم والمسكنة والتسوّل. لا تلقوا اللوم على الآخرين وتدّعون عدم قدرتكم على التغيير، فكلّكم مذنب ولا أبرياء والقتيل والضّحيّة هو الوطن ومقدراته التي أبيحت واستهلكت غدراً وغيلةً من قبل من يدعي الولاء له.

إقرأ أيضاً: صحة الشباب ومتاعب الحياة

أيّها الشّعب اللّبناني النّبيل لا تستجدي طلب المعونة والمساعدة من الآخرين. فبلدك حباها الله بكنوزٍ لا تحصى من الثّروات والخيرات الطبيعية والأراضي الخصبة والمياه والجمال والمناخ والتّراث والعقول النّيّرة وتاريخ خالد وأمور كثيرة لا تحصى ولا تعد. فلماذا المذلة والتّبعيّة والاستجداء والخنوع؟ هل تنتظرون وضع لبنان تحت الوصاية الدولية الإنسانية بسبب تقاعس أهله… ولو أُحسن استخدام الموارد المتاحة لأصبح لبنان من أفضل وأرقى وأغنى شعوب الأرض (ما حك جلدك مثل ظفرك، متولي أنت جميع أمرك)؟

أيّها الشّعب العريق هذا ليس وقت العتاب وإلقاء المسؤولية والأخطاء على الآخرين. يجب علينا التحلي بالشجاعة ونبذ الذات والاعتراف بالخطأ، والعمل الجماعي والالتحام الوطني، والتعايش السلمي والبعد عن التناحر والتنافر، ودعوة الاستثمارات الخارجية عند تهيئة الأوضاع الملائمة لها. انفضوا عن أنفسكم هذه الغشاوة وأعيدوا أمجادكم الماضية بقدراتكم المحلّيّة المتوافرة لديكم ولا تتكلوا على الآخرين ليقودوكم، وليكن كل فرد قدوة للآخرين في تولي زمام المبادرة بالكفاح والعمل التطوعي الجماعي قبل أن يلعنكم التّاريخ لتدميركم بلادكم… ولكي يعود لبنان بلد الحضارة والثقافة والعلم والتجارة والفنون.

نسأل الله التوفيق في أعمالنا…

كلمات البحث
شارك المقال