fbpx

رياض سلامة الحاكم الأقوى للبنان (1)… من الاستقرار إلى الانهيار

زياد سامي عيتاني
تابعنا على الواتساب

“الحاكم التاريخي”، “أحد أطول حكام المصارف المركزية عهداً في العالم”، “العمود الفقري لاستقرار النقد الوطني”، “الصندوق الأسود”، “مهندس السياسات المالية” و”مسبب الإنهيار المالي”… جميع هذه الأوصاف والتوصيفات أطلقت على “الرجل المثير للجدل” والشخصية “الملتبسة والغامضة” رياض سلامة، الحاكم السابق لمصرف لبنان، الذي تم توقيفه إثر استجوابه في قضية اختلاس أموال، لتطوى صفحة مفصلية من تاريخ لبنان الاقتصادي والسياسي، وتفتح صفحة جديدة، لا تقل أهمية عما قبلها.

رياض سلامة نال جوائز إقليمية ودولية وأوسمة شرف تقديراً لجهوده في منصبه، وكان أول حاكم مصرف مركزي عربي يُقرع له جرس افتتاح بورصة نيويورك، ويعتبر أحد أطول حكام المصارف المركزية عهداً في العالم (شغل منصبه منذ العام 1993 قبل أن يغادره في 31 تموز 2023 على وقع انهيار اقتصادي يشهده لبنان منذ 2019 وصنّفه البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم، ويُعتبر الأسوأ في تاريخ البلاد). حظي لسنوات عديدة باحتفاء كبير كخبير مالي مقتدر، قبل أن تمزق صورته قضايا فساد في الداخل والخارج وانهيار مدمر للقطاع المصرفي.

كان على مدى أعوام عرّاب استقرار الليرة وانتعاش الاقتصاد ما بعد الحرب الأهلية، بحيث تمكن لبنان طوال أعوام من جذب رؤوس أموال من الخارج في مقابل منح فوائد مرتفعة للغاية للمودعين، وبات القطاع المصرفي ركيزة رئيسة في الاقتصاد اللبناني. وكان يوصف في عز حقبات ولاياته الممددة والمجددة بأنه رجل استثنائي لا يستغنى عنه لحماية الليرة والاستقرار المالي والنقدي سحابة عقود ثلاثة إلا بضع سنوات، إذ منذ توليه منصبه حافظت الليرة اللبنانية على استقرارها بعدما ثبت سعر صرفها في مقابل الدولار على 1507 ليرات، وهو ما كان يبرره بوجود احتياطات مهمة بالدولار الأميركي لدى المصرف المركزي، الى أن نضبت منذ بدء الأزمة التي برزت مع امتناع الحكومة اللبنانية عن دفع ديونها المستحقة، فبدأ الانهيار وشحت السيولة.

على وقع الانهيار الاقتصادي غير المسبوق الذي شهده لبنان منذ 2019 يُحمّل كثر أركان الطبقة الحاكمة وسلامة مسؤولية الفشل في إدارة أزمات البلاد المتلاحقة، ومسؤولية انهيار العملة الوطنية، وينتقدون بصورة حادة السياسات النقدية التي اعتمدها طوال الأعوام الماضية باعتبار أنها راكمت الديون وسرّعت الأزمة، إلا أنه دافع مراراً عن نفسه بتأكيده أن المصرف المركزي “موّل الدولة ولكنه لم يصرف الأموال”.

يذكر أن سلامة وبغطاء سياسي دخل منذ العام 2016 في هندسات مالية هدفت إلى الحفاظ على قيمة الليرة ورفع احتياط المصرف المركزي ورسملة المصارف، لكن خبراء اقتصاديين يعتبرونها من بين الأسباب الرئيسة التي أسهمت في تعميق أزمة البلاد المالية.

حتى آخر يوم من ولايته واصل سلامة الدفاع عن السياسة النقدية التي اعتمدها، معتبراً أنه حاول “التخفيف من وطأة الأزمة الاقتصادية التي هزت لبنان منذ أكثر من خمسة أعوام”. وفي مقابلة مع إحدى الاذاعات اللبنانية قبل أن يترك منصبه، سُئل سلامة عما إذا كان الساسة قد انفضوا من حوله، فأجاب: “إن هذا حدث منذ فترة طويلة”، معتبراً أنه استُخدم كـ”كبش فداء” لهذا الانهيار وأن الحكومة، وليس البنك المركزي، هي المسؤولة عن إنفاق الأموال العامة.

قبيل انتهاء ولايته لم يكن يخفي سلامة خوفه من أن يتحول إلى “كبش محرقة” ويتم تحميله وزر الحقبة الماضية وما وصلت إليه البلاد من انهيار اقتصادي، ففي عدد من الاطلالات كان يلمح بصورة غير مباشرة إلى إمكان قلب الطاولة على الجميع في اللحظة المناسبة والكشف عن كثير من المستور، إلا أنه حينها كان يقف وراء قانون النقد والتسليف الذي يلزمه المحافظة على سرية المعلومات المرتبطة بالمصرف المركزي.

رياض سلامة، الذي كان يتميز ببرودة أعصابه ورباطة جأشه وهدوئه، وقدرته على عدم الإنفعال وعلى عدم إظهار مشاعره، وبصمته المطبق، الذي يعرف متى يخرج منه الكلام، لينطق بعدد من الجمل المقتضبة، وهو يجيد إختيارها بدقة، عندما كان حاكماً لمصرف لبنان، هل يبقى كذلك خلف القضبان؟

رياض سلامة بالتأكيد من مكان توقيفه سيتحول إلى “خزنة فولاذية”، لما يختزن من معلومات ووقائع وخبايا وخفايا وأسرار، تختصر ثلاثة عقود، تنوعت مساراتها من الحرب إلى السلم، وما بينهما من معارك وخضات وأزمات، لا سيما وأنه رافق من موقعه أربعة رؤساء جمهورية وسبعة رؤساء حكومة وستة مجالس برلمانية منتخبة، حتى بات شاهداً ومواكباً لمختلف التحولات الكبرى في تاريخ لبنان ما بعد إتفاق الطائف، بدءاً من فترة السلم والازدهار، وصولاً إلى الإنهيار المالي الكبير.

شارك المقال