موتى بلا أسماء

عالية منصور

“أولئك الذين عَبَروا

مصوّبين عيونهم نحو ملكوت الموت الآخر

يتذكّروننا- إذا تذكروا- لا

كأرواحٍ تائهةٍ عنيفةٍ، بل ليس سوى

كالرجال الجوف

الرجال المحشوّين..”

لم تكن قصيدة ت. إس إليوت (الرجال الجوّف) مجرد شعر جميل وحاد المزاج، بل كانت تعبيرا عن ألم الخواء الوجودي في مواجهة الاسئلة الأخلاقية الكبرى.

وها أنا بينما أجلس أقلب صفحات الجرائد والمواقع الالكترونية، واتنقل بين قنوات ونشرات إخبارية، أشعر بكل هذا الخواء وأنا أستذكر حدثاً ليس ماضياً، بل حدثاً ما زال يفوح برائحة الدم واللحم المحترق والآهات المرعبة لضحايا لم نعرف أسماءهم لأن أحداً لم يتوقف قليلاً ليدرك أن من احترق في عكار كانوا أزواجا وأبناء وعاشقين ومكسورين ومطحونين وحالمين.

مضى اسبوعان على انفجار صهريج الوقود في عكار، انفجار احرقت صوره القلوب. راح ضحيته العشرات وامتزجت كالعادة دماء اللبنانيين بالسوريين، وكأن الاسى والمعاناة مصير مشترك يربط بين الشعبين.

كأي حادثة او فاجعة تقع في شمال لبنان، يسارع الناشطون والناشطات الى اتهام السلطة والحكومات المتعاقبة بإهمال تلك المناطق الفقيرة مادياً والغنية بطيبة اهلها، وهو اتهام بجزء منه محق.

ولكن بعد اسبوعين على الانفجار يبدو ان عكار عادت الى غياهب النسيان، ليس نسيان السلطات، ولكن نسيان من يدعي انه معارض لتلك السلطات ولنهجهها واهمالها، فنادراً ما نقرأ عن جديد بالتحقيقات، او نسمع باسم ضحية من ضحايا الانفجار. ومن البديهي بكل اسف القول اننا لم نعرف اسماء الضحايا، لم نحفظهم ولم نصورهم وهم يضحكون امام عدسات الكاميرات قبل رحيلهم، ولم نر صورهم حتى على بروفايلات من يدعي انه لا يشبه هذه “السلطة”.

لطالما راودني سؤال: هل يختلف حزن الفقراء عن حزن الاغنياء او حتى حزن الطبقة الوسطى؟ لا ادعي انني املك الجواب اليوم، ولكن ما الفرق بين ضحايا عكار وضحايا بيروت؟ في الحالتين مات فقراء نتيجة تقاعس ما او جرم مؤكد. وان كانت “السلطة” هي المسؤولة الاولى عن الجريمتين، فاين هم من يطالبون بمعاقبة هذه السلطة، أم انهم يريدون محاسبتها على انفجار المرفأ، ولضحايا عكار عدالة السماء؟

الاعلام كان المقصر الاول في عكار، فحتى بعد ايام من وقوعها وعندما قرر بعض هذا الاعلام القاء الضوء على الفاجعة، لم يبد اي اهتمام بالضحايا ولا بمأساة المنطقة، بل كانت حملة اعلامية اعلانية انتخابية لاحزاب سياسية تجعلك تشعر ان احدا لم يسقط او يحترق جراء ذلك الانفجار.

اما جزء كبير من الشباب المعارض والناشط فللاسف كان اداؤه اسوأ من اداء السلطة والاعلام، بعضهم لم يعجبه بكاء أم مات ولدها حرقاً فأسمته “شهيدا”، فأراد ان يشرح الفرق بين الشهيد والضحية من دون اي مراعاة لاي شعور انساني يمر به اهالي الضحايا الشهداء، كيف لا والهدف كان تسجيل نقاط وكأن معركة انتخابية على كرسي نيابي ما قد بدأت.

آخر اعترض على تشبيه ضحايا انفجار بيروت بضحايا انفجار عكار، نعم فعكار البعيدة الفقيرة لا تشبه بكل تأكيد مناطق بيروت الراقية واهلها قد لا يتقنون اللغة الفرنسية.

ان كان نواب وسياسيو عكار مقصرين بحق منطقتهم، وان كانت الدولة متخاذلة بل ومتواطئة ضد عكار واهلها لدرجة تقاعسها حتى عن انقاذ ابنائها، فاين من يطرحون انفسهم كبديل؟ اين المعارضة الثورية، وبماذا اختلفت بأدائها عن معارضة الاحزاب بعضهم لبعض؟

علينا ان نعترف ان مأزقنا الاول اخلاقي قبل ان يكون مأزقا سياسيا، عندما نفرق بين ضحية وضحية، عندما ندين قتل الاطفال الفلسطينيين ونعتبر ان ما فعله سمير القنطار عمل بطولي، عندما نبكي ضحايا انفجار بيروت وهم يستحقون البكاء بكل تأكيد، وننسى بعد ايام ضحايا انفجار عكار، فهذا لا علاقة له بالسلطة، بل هذا تأكيد ان هذه السلطة قد تكون انعكاساً لصورتنا.

عكار حزينة ووحيدة كما كانت وما زالت طرابلس، كانوا ضحايا نظام الاسد لسنوات، ولكن يبدو ان حتى من عارض الاسد لم يكن اقل قسوة عليهما، تماما كما من يعارض “السلطة” اليوم، وان كنت حتى اللحظة لا ادرك تماماً ما المقصود بـ”السلطة” في بلد كلبنان.

شارك المقال