قبل نهاية ولايته الرئاسية ومغادرته البيت الأبيض، أدلى الرئيس الأميركي باراك أوباما بسلسلة مقابلات للصحافي الأميركي في صحيفة “ذي اتلانتيك” جيفري غولدبرغ. وبدلاً من أن ينشر غولدبرغ المقابلة على شكل سؤال وجواب مع أوباما، نشر مقالة مطولة جاءت بمثابة مراجعة كاملة وعميقة لسياسة الرئيس الأميركي الخارجية، وحملت عنوان “عقيدة أوباما”، دعا فيها إلى تقاسم النفوذ في الخليج بين إيران والسعودية، ومدافعاً عن انسحابه من منطقة الشرق الأوسط، وعن سياسة قيادته للعالم من المقعد الخلفي وهو الذي سعى إلى تصفية الحروب المباشرة التي ورثتها إدارته عن إدارة بوش الابن.
في الضفة الأخرى، كانت الجملة التي صاغها هنري كيسنجر بينما كانت الولايات المتحدة تخوض الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي، وقبل أن يسقط جدار برلين، محفورة في الذاكرة الأميركية: “إن التاريخ هو ذاكرة الأمم، أو معمل كبير لتجارب البشرية، يحفل بمعادلات النجاح لمن يحسن صياغتها”.
شكلت عقيدة باراك أوباما نسجاً مما تبقى من الحلم الأميركي الطاغي بروح الليبرالية والمرتكز على الثوابت الرأسمالية المحركة لمداميك الاقتصاد ثم السياسة، الديموقراطية بالمفهوم الأميركي محمية ومصانه بأسوار عالية من الدولارات التي توفر الملاذ والحماية للشعب الأميركي، فلا يمكن للديموقراطية أن تعيش مع بطون خاوية، كل هذه الكتل الضخمة من الأفكار صنعت من باراك أوباما ذاته وعقيدته وفكرته التي برّر بها وصوله إلى البيت الأبيض، وهو الذي جاء من خارج كل التقاليد الأميركية الكلاسيكية.
واجه الرئيس الديموقراطي باراك أوباما إبان عهده، سيلاً من الانتقادات اللاذعة بسبب عقيدته وسياساته الخارجية، والتي كان يبدو عليها التردد والضعف في إدارة الأزمات في سوريا وفلسطين والعراق وأوكرانيا..، والامتناع عن الانخراط العسكري المباشر والصريح في الأماكن المشتعلة، ورفض التورط في عمليات عسكرية برية واسعة. وشهد عهده تغييراً عميقاً لصورة الولايات المتحدة التي رسخها الرؤساء الأميركيون السابقون في الأذهان كشرطي للعالم. من جهة ثانية، اتجهت العلاقات الأميركية مع وصول أوباما إلى البيت الأبيض نحو الانكفاء والتحول من الشرق الأوسط إلى “آسيا”، فقد انسحب أوباما من الشرق الأوسط، وأدار ظهره لدول الخليج، وأبرم اتفاقاً نووياً مع طهران.
غير أنه وبنظرة فاحصة ودقيقة لعقيدته وسياسات باراك أوباما، نستطيع أن نرى أنها تنسجم تماماً مع التوجهات والمبادئ التي أقرها في وثيقته التي أصدرها مطلع ولايته الأولى، تحت عنوان “الاستراتيجية العسكرية الأميركية للقرن 21″، وهي لا تقل ضراوة عن الاستراتيجيات الأخرى. الخطة حملت تطويراً في العقيدة العسكرية الأميركية، وسعت إلى تصفية الحروب المباشرة التي ورثتها إدارة أوباما عن إدارة بوش الابن، وتقليص الوجود العسكري الأميركي التقليدي في الخارج، والامتناع عن خوض حروب مماثلة في المستقبل القريب، مع الاعتماد على الطائرات بدون طيار لشن هجمات ضد معاقل المتطرفين كما حصل في الصومال، وأفغانستان، واليمن. في مقابل تركيز الجهود والامكانات لتحقيق تفوق نوعي في التكنولوجيا العسكرية، وتحديث منظومة الأسلحة فائقة الدقة وإعادة هيكلة القدرة العسكرية والجيوش الأميركية، وبالتوازي مع ذلك، تم تفويض حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط خوض مواجهات عسكرية بدعم أميركي لوجيستي واستخباراتي عالي المستوى، وغطاء سياسي ومن خلال التسليح والتدريب والتوجيه.
باختصار كانت نوعاً جديداً من الحروب الأميركية الخارجية أرادتها إدارة أوباما “حروباً ناعمة” ذات بصمات رشيقة، وكانت استراتيجية جديدة على أميركا، وهي القيادة من المقعد الخلفي، والتي من أبرز خطوطها العريضة: أن يقوم الشركاء الاقليميون بحل القضايا المحلية وتحمل تكلفة المواجهات العسكرية مادياً وبشرياً، كما قال أوباما في مناسبات عدة: “في النهاية أميركا لا يمکنها أن تحل جميع المشكلات في الشرق الأوسط، ويجب علی الشعوب في الشرق الأوسط أن تحل بعض هذه المشكلات بأنفسها”. وتمت إحالة الصلاحيات والتكاليف علی شركاء أميرکا الاقليميين عبر أساليب وأشكال مختلفة. فعلى سبيل المثال، لزمت أميركا ملف الحرب على “داعش” في العراق لطهران. وعلی الرغم من إعلان المسؤولين الأميركيين بصورة قاطعة أنه ليس هناك أي دمج للقوات الأميركية الخاصة والميليشيات الايرانية على الصعيد العملياتي في المعارك ضد “داعش”، كان المستشارون الايرانيون ينفذون عبر وسطاء العمليات البرية المطلوبة لإتمام العمليات الجوية الأميركية. وقد جسدت معركة الموصل إستراتيجية القيادة من المقعد الخلفي، حيث ألقت الولايات المتحدة بالعبء الرئيسي للمعارك البرية ضد “داعش” على الجيش العراقي والقوات الموالية له، وبإسناد جوي أميركي، بينما بقي المئات من الكوماندوس الأميركي على بعد أميال خلف خطوط الجبهة، يعطون التعليمات للقوات العراقية ويوجهون سير المعركة. كما قدمت القوات الخاصة الأميركية المعدات والتدريب لقوات البشمركة الكردية، کي تقاتل علی الأرض ضد “داعش” بدلاً منها. وفي الحالة السورية، تغير التكتيك بحيث تعاونت الولايات المتحدة مع فصائل المعارضة السورية المعتدلة وليس مع قوات النظام السوري لمحاربة “داعش”.
وقد تم تطبيق مبدأ القيادة من المقعد الخلفي، في أماكن عدة في العالم تاركة واشنطن، الآخرين في المقاعد الأمامية يقودون وفق التوجيهات والإرشادات والتعليمات الأميركية، من دون ضجة أو متاعب أو خسائر مالية أو بشرية لواشنطن.
وينظر كثير من المراقبين الى أن الملونة كامالا هاريس، والمرشحة للرئاسة الأميركية، ستكون امتداداً لظل أوباما في البيت الأبيض، في حال فوزها بالسباق الرئاسي .
وتطلعت هاريس، المولودة لأم وأب هاجرا إلى الولايات المتحدة من الهند وجامايكا، إلى أن تصبح أول امرأة تشغل مقعد الرئاسة في البلاد عندما نافست جو بايدن على ترشيح الحزب الديموقراطي في 2020.
ويشير رفض دونالد ترامب أي مناظرة تلفزيونية جديدة مع كامالا هاريس بعد المناظرة الأخيرة، إلى ضعف بات يعاني منه أمام حضور هاريس الاعلامي، ولم يصدّق كثيرون أن المرشّح الجمهوري، المستعد لقول أي شيء في أي موضوع، بدأ يتهيب من الإعلام، ويأخذ في الاعتبار التأثير السلبي لبعض ما يقوله، وهو الذي يهوى الشائعات وكأنها لا تضر أبداً، وهمه مسكون بالسلطة الرابعة بإذكاء نيرانها وإثارتها بصفتها الكهرباء الاجتماعية التي يداريها الجميع، بدلاً من إخمادها، وهو ما ينم عن ذكاء خارق في فهم قوة الإعلام المعاصرة كسلطةٍ أولى تؤدي خدمات جليلة، عند تسخيرها لمصلحته إيجاباً أو سلباً لا فرق. وهو في سبيل ذلك مارس السياسة الداخلية والخارجية كمهرج، يحقق أكبر قدر من المشاهدين أو المتذمرين قبل ولايته الرئاسية وبعدها وإبانها.
وميّز المناظرة بين ترامب وكامالا غياب السياسة الخارجيّة باستثناء مداخلة قصيرة لنائبة الرئيس الأميركي تحدثت فيها عن ضرورة وقف حرب غزّة.
على كل حال، الشخصان غير مؤهّلين لمواجهة تعقيدات هذا العالم، من حرب غزّة، إلى حرب لبنان إلى حرب أوكرانيا، وهما اللذان يختلفان كثيراً في معظم الأشياء، إلا على الولاء لاسرائيل.