fbpx

أخبار لن تنشرها الصحافة

عبد المنعم مصطفى
تابعنا على الواتساب

هذا الصباح، وبينما أتصفح “فيسبوك” للإطمئنان على الأحباء والأصدقاء، طالعت لوحة نشرها الصديق أحمد كمالي في مجلة أيام مصرية، اللوحة من أعمال الفنان النمساوي توني بايندر عنوانها “المقهى” يظهر فيها أحد رواد مقهى قاهري ممسكاً في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، بجريدة يقرأ منها بصوت مسموع لرفاق أحاطوا به، وتحلقوا حوله، فيما انشغل رواد آخرون في أحد زوايا المقهى القاهري بالمسامرة وبتدخين النارجيلة.

حملتني لوحة الفنان النمساوي الى طفولتي الأولى، واستدعت ذاكرتي مشهداً من الطفولة قبل الالتحاق بالتعليم، حين كنت في الخامسة من عمري، أرى عم حسن العلاف وقد اعتمر طاقية حسين رياض في فيلم “في بيتنا رجل”، وارتدى جلباباً من الكستور المخطط وضع فوقه بالطو جبردين حال لونه الكاكي تحت وطأة الزمن، فبات مجهول اللون حائراً بين الأخضر الكالح والرمادي.

قرب العاشرة صباح كل يوم، وبينما تنتشر شمس صباح شتوي على حارة روض الفرج، يضع عم حسن العلاف مقعدين أو ثلاثة أمام دكان العلافة، استعداداً لحصة المطالعة حين يصل رفاقه من أرباب المعاشات يتأبط أحدهم الجريدة فيما يتوكأ الآخر على عصاه قبل أن يتكئ بمرفقه على إحدى قفف الغلال (جمع قفة وهو وعاء مصنوع من سعف النخيل المجدول التي يرصها عم حسن العلاف بعناية أمام مدخل دكان العلافة).

لم تكن العلافة هي حرفة عم حسن الأصلية، لكنها كانت حيلة من حيل الرزق، لجأ اليها عقب تسريحه من الخدمة بالترسانة، ضمن حزمة قرارات كانت حكومة اسماعيل صدقي باشا قد اتخذتها لمواجهة الكساد العالمي الكبير (١٩٢٩-١٩٣٠).

بعد تسريحه من الخدمة إنضم إليه جدي لأمي حافظ علي منصور الذي شملته هو أيضاً قرارات إسماعيل صدقي باشا بالتسريح من الخدمة في هيئة السكك الحديدية، فاضطر جدي الذي لم يكن خبيراً بالتجارة، الى البحث عن أسباب بديلة للرزق كان من بينها فتح متجر للمانيفاتورة (الأقمشة) وآخر للدقيق، كما شارك بحصة في متجر العلافة مع عم حسن العلاف.

الشراكة بين جدي حافظ وعم حسن العلاف، كانت تتويجاً لصداقة نبتت جذورها في سنوات الرخاء، قبل اكتواء مصر بنار البطالة في مطلع الثلاثينيات كأحد توابع الكساد العالمي العظيم، الذي قاد لاحقاً بين أسباب أخرى الى اشتعال الحرب العالمية الثانية. اعتاد جدي أن يتأبط جريدته في طريقه الى دكان شريكه العلاف، حيث يجلسان ضمن صحبة تتداول الشأن العام وتنصت الى قراءة جدي لما تحمله صحيفته من أخبار، يأملون أن يكون من بينها خبر يمنحهم الأمل في استعادة وظائفهم الحكومية التي وفرت لهم في السابق حياة لينة رخوة قليلة المنغصات.

لم أر جدي حافظ، فقد توفي قبل ميلادي بنحو ثلاثة أعوام، لكنني رأيت عم حسن العلاف وقد تحلق حوله رفاق جلسة الجريدة ما بين التاسعة صباحاً وحتى يؤذن لصلاة الظهر في مسجد غير بعيد عن الدكان. كان أغلب حديثهم عن توابع العدوان الثلاثي على مصر بعد قرار عبد الناصر بتأميم قناة السويس، لكن شطراً من اهتماماتهم قد انصبت على الأسعار والحصص التموينية من السلع الأساسية (زيت وسكر وشاي وكيروسين)، كانت تلك الحصص التموينية قد بدأ العمل بها لمواجهة ظرف استثنائي عقب اندلاع الحرب العالمية الثانية، واستمر العمل بها في مصر حتى الآن على الرغم من انتهاء الظرف الاستثنائي منذ أكثر من خمسة وسبعين عاماً. كان الدعم الذي توفره الدولة للسلع الأساسية طوال سنوات الحرب العالمية الثانية، عارضاً واستثنائياً بطبيعته، وبطبيعة الظرف الذي أنتجه، لكن ثمة من استراح لاستدامته، معتبراً أن إدارة الحكم بسيف الدعم أسهل ألف مرة من ترويض الشعب بدونه.

كان الدعم آلية استثنائية لإدارة ظرف استثنائي، وكان اعلان الأحكام العرفية إجراءً إستثنائياً لمواجهة استحقاق استثنائي هو الحرب، لكن الاستحقاق الاستثنائي (الحرب العالمية الثانية) قد انتهى، من دون أن تنتهي لا حالة الطوارئ ولا آلية الدعم وبطاقات التموين، وحصص السلع الأساسية المدعمة، التي انضمت اليها لاحقاً أقمشة الكستور والبفته، وحصص قماش وقطن التنجيد للعرائس. كل ما أنتجته الظروف الاستثنائية استمر بعدها وتمدد وانتشر، لا أعرف إن كان ذلك بفعل تكاسل الحكم أو تقاعسه أو عجزه أو بسببب تفاقم الأحوال المعيشية في مصر على نحو مطّرد بفعل عجز الإدارة وخصوبة المصريين الذين راحوا يتكاثرون ليتضاعف عدد سكان مصر نحو خمس مرات منذ خمسينيات القرن الفائت.

لا أعرف لماذا يستوطن لدينا كل ما هو استثنائي وعارض، ولماذا يهجر حياتنا ويضيق بها أو تضيق هي به، كل ما هو طبيعي وأصيل؟! لقد أمضى المصريون الشطر الأكبر من تاريخهم الحديث (المائة عام الأخيرة مثلاً) محكومين بقوانين استثنائية (حالة الطوارئ مثلاً استمرت أغلب فترات تاريخنا الحديث كله) والبطاقات التموينية التي أنتجتها ظروف الحرب العالمية الثانية ما زالت آلية لادارة السياسة والاقتصاد والمجتمع في بلادنا.

صحبة عم حسن العلاف التي كانت تفتش كل صباح في جريدة جدي حافظ عن أخبار عودة الموظفين المسرحين الى وظائفهم، وعن بدل غلاء المعيشة الذي وعدت به حكومة الوفد، وعن تطبيع الحياة اليومية للمصريين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لم تنفض بعد فما زال المصريون يفتشون عن أية أخبار قد تعينهم على مواجهة الغلاء والبطالة والفساد والحلول الاستثنائية، لكنهم مع ذلك ما زالوا لا يمانعون في استخدام أدوات استثنائية بطبيعتها لمواجهة استحقاقات ليست استثنائية بطبيعتها.

إشترك بالقائمة البريدية

شارك المقال