في جثة سياسية

علي نون
علي نون

ليس مأنوساً ولا منطقياً التفخيت بواقعة زيارة الوفد اللبناني الرسمي الى دمشق بعد طول غياب، لكن ليس مأنوساً اكثر وضع ثقّالات كبرى على هذه الزيارة وجعلها فاتحة لاستحالات شتى… ومثلها زيارة وفد وئام وهاب وطلال ارسلان العلنية والمبهرجة الى بشار الاسد، ومحاولة جعلها واعتبارها نافخة للروح في جثة سياسية لم يبق من شواهدها سوى الصورة البرانية ليس الا !

الوفد الرسمي زار سوريا بعد إذن أميركي رسمي وليس نتيجة فعل تحدّ مضاد، وما كانت لتحصل لولا وصول الانهيار اللبناني الى مستوى متفجر لا تريده واشنطن لاعتبارات تتصل بإسرائيل أولاً وليس بسوريا وبشار الاسد، وبإيران ثانياً وليس بإعادة الانفتاح على بشار الاسد.

سياسة ادارة جو بايدن تقارب الاهداف الاميركية على طريقتها المختلفة شكلاً عن مقاربة ادارة دونالد ترامب السابقة… لكن المضمون الاستراتيجي واحد: هذه أهداف اميركية وليست بايدينة ولا خاصة بالديموقراطيين، مثلما ان سياسة ترامب كانت اميركية وليست وليدة النوازع الشخصية الترامبية او العامة الموصولة بالجمهوريين. وذلك في عناوينه المركزية يعني أن الاستراتيجيات الخارجية الاميركية تهتز ربما بفعل اداء الموجود في البيت الابيض لكنها لا تقع ولا تتغير… من كيفية مقارعة الصعود الصيني، الى كيفية تلقف التحدي الروسي المستجد، الى التشابك المصيري بأوروبا وحلف الاطلسي، الى اعتبار العلاقة مع إسرائيل خارج اي نقاش تغييري، الى افتراض استحالة الركون الى طموحات نظام ايراني غير مألوف أكانت هذه تتصل بالمشروع النووي أم بالتمددات الاخطبوطية في الخارج أو بمواصلة اللعب بالنار عند منابع الطاقة واستقرار دولها.

يتناسى ويتجاهل كثيرون وفي مقدمهم أرباب الفذلكات الانتصارية الممانعة، أن “قرار” الانسحاب من افغانستان مثلاً، اتخذه ترامب قبل وصول بايدن! وتحت شعار فضفاض وعريض هو “اميركا أولاً” وفي سياقات مسرحية يعشقها ترامب لكنها كانت تنفيذًا لسلسلة خلاصات كبرى أوجبتها قصتان كبيرتان: الأولى وضع التحدي الصيني في صدارة الاجندة المستقبلية الاستراتيجية للولايات المتحدة، والثانية هي ارقام العجز في الموازنة العامة التي اثقلت الاقتصاد الاميركي الاكبر في العالم وفي التاريخ ودفعت الى “التفكير” بكيفية الحد منه ومن تداعياته الكارثية اميركياً وعالمياً.

حاول ترامب على طريقته أن ينفذ سياسة تتلاءم مع هذين المعطيين، لكنه طاش بعيداً وكاد يتسبب بالأسوأ: اميركا أولاً كادت تفجر الحلف الاطلسي في اللحظة الغلط، أي في لحظة عودة موسكو الى الميدان! والى محاولة فلاديمير بوتين احياء امجاد الامبراطورية المكسورة!… ثم راح في لعبة على طريقة رقّاص ساعة الحائط في العلاقة مع الصين ومع الضرائب التي فرضها على صادراتها الى الولايات المتحدة قبل ان “يكتشف” ان حدود مناوراته ليست رحبة ولا سهلة الاجتياز خصوصاً (مثلاً) ان حجم الاستثمار الصيني في سندات الخزينة الاميركية يقارب الاربعة آلاف مليار دولار… فقط!

ثم وضع قرار الانسحاب من افغانستان في سياقات الأكلاف المالية قبل سياق مكافحة الارهاب، و”دخل” الى الشرق الاوسط من باب محاولة القفز فوق المألوف التاريخي: الانفتاح على إسرائيل قبل الوصول الى الحل النهائي! او على حسابه! ثم الخروج من الاتفاق النووي مع ايران وضرب أي محاولة غير اميركية لاستثماره! اراد اتفاقاً معها يعيد الشركات الاميركية اليها وليس الاوروبية او الصينية! وبشروط السوق المعتمدة دولياً، وما يعنيه ذلك من تتمات مسلكية نظامية تامة، وفي الوقت عينه لم يكلفه ذلك الانسحاب دولاراً واحداً… ثم تابع سياسة سلفه السيئ الذكر باراك أوباما ازاء سوريا ولم يغير فيها حرفًا واحداً… وغير ذلك الكثير من الذي يدلّ في الاجمال على ان السياسات الخارجية الاميركية الكبرى ثابتة وإن تغيرت الإدارات التنفيذية في البيت الابيض!

التفصيل الخاص بلبنان لا يخرج عن السياقات السابقة، ولا يهم الاميركيين سوى أمن إسرائيل اولا واستقرار منابع الطاقة ثانيا… ولا يخرج التعامل مع ايران عن هذين الحدّين. ويبدو بهذا المعنى الناشف والبراغماتي (إنسَ قصة حقوق الانسان لو سمحت) ان بقاء بشار الاسد ولو على شاكلة فزاعة الحقول، أسلم وأضمن من كسره نهائيًا وإخراجه من المشهد مثلما حصل مع صدام حسين! لكن لا حصافة ولا فصاحة في افتراض عودة بقايا نظام ذلك المخلوق الى لعب اي دور خارج وظيفة ضمان استقرار جبهة الجنوب السوري مع إسرائيل وبالحدود التي ضمنتها وتضمنها روسيا بوتين ما غيرها…

ولا حتى عودته الى التحكم بالداخل السوري على كيفه وهو الذي لا يستطيع فعليا ضمان امنه التام في جحره الدمشقي…

ولا ممارسة اي سلطة واقعية في مناطق السيطرة الايرانية، ولا في تلك الكردية المحمية اميركياً، ولا في مناطق الشمال المحمية تركياً، وبالتأكيد ليس مسموحاً له بأن يقرر اي شيء في المدار الامني والعسكري الاسرائيلي المتصل بالجبهة الجنوبية…

أمًا حديث الفتوحات من خلال النافذة اللبنانية، فهو تخريف اعلامي ممانع (والجماعة الممانعة شاطرة في الاعلام)، وليس أدلّ على تخريفه وتهافته من جعل خبر لقاء مع وئام وهاب وطلال ارسلان، خبراً كبيراً واستثنائياً واستراتيجياً… وأي بؤس هذا!؟

شارك المقال