برهان علوية: لقاء الكلمة والصورة

محمد علي فرحات

غاب المخرج السينمائي اللبناني برهان علوية (1941 – 2021) مساء 8 أيلول الجاري في بروكسل وأعلنت الوفاة في اليوم التالي، وسيتم الدفن بعد الإجراءات اللازمة في قريته أرنون، قلعة الشقيف Beaufort قضاء النبطية. إنها الوصية بالسكن تحت تراب لبنان بعدما تعذرت الإقامة فوقه.

مبدع في السينما الروائية والوثائقية ومثقف ينتمي الى جيل السبعينات، حيث أحلام التغيير والتطوير تتعدى الحدود الى المنطقة الغارقة في أزماتها. وهو واحد من أعلام الإخراج السينمائي في لبنان الذين يغيبون الواحد تلو الآخر فيما وطنهم يغرق في أزماته الى حد اليأس وجفاف الروح.

وإذا افترضنا جمع كتابات علوية المباشرة أو الواردة في مقابلات معه، تظهر كأنها معادل فكري للصور التي يحركها في أفلامه. نحن أمام مخرج تتوازى عنده الفكرة والصورة ولا تتقدم احداهما على الأخرى، لذلك كان حاضراً في نتاجه السينمائي السؤال الفلسطيني (فيلم “كفر قاسم”) والسؤال اللبناني كمختصر لأزمة الاجتماع المشرقي، مع حيز للسؤال المصري في فيلمه الوثائقي عن عمارة حسن فتحي والآخر عن أسوان. ألهذا كان المخرج الراحل يميل الى نوع من البطء في سرد الصورة كأنه يقدمها إلى قارئ لا الى مشاهد؟ ربما، لكن برهان علوية كان يحاذر ان يطغى الفكر لديه على المشهد ولم ينس في أي لحظة ان السينما هي لغة الصورة لا لغة الكلام، يصح ذلك في أفلامه الروائية كما في أفلامه الشاهدة التي يمكن وصفها بـ “الوثائقية” أو التسجيلية، لكنها كلها سينما وليست شيئاً آخر نراه في تقارير التلفزيونات.

منذ أكثر من عشر سنوات لزم علوية منزله العائلي في بروكسل وندرت لقاءاته، في نوع من الاعتزال لحقه اليه مبدعون كثر في لبنان، خصوصاً بعد الخواء السياسي والانهيارات التي تسبب بها الفساد وتراجع الاقتصاد الى حدود التسبب بمجاعة مقنعة. والايجابية الوحيدة في تلك المرحلة هي الاتصال المستمر بينه وبين الناقد السينمائي وليد شميط المقيم في باريس، انجز وليد بنتيجته كتاباً عن علوية ويعمل حالياً على وضع لمساته الأخيرة ليصدره في وقت قريب، وربما يكون الشهادة النقدية الأكثر شمولاً عن علوية وسينماه.

حياة حافلة بين بيروت والقاهرة وعواصم افريقية أخرى واقامات مديدة في باريس وبروكسل (أنجز فيها دراساته العليا في السينما واستوطنها لاحقاً)، فضلاً عن بيروت حيث الأهل والوجدان والموضوع الأثير لإبداعه السينمائي وعطائه الأكاديمي في هذا المجال (مارس تعليم المادة في جامعة القديس يوسف).

ويشمل تراث علوية ثلاثة أفلام روائية هي: “كفر قاسم” (1975) الذي حاز جوائز عربية ودولية وهو يروي مأساة القرية الفلسطينية التي فرض عليها الاحتلال الإسرائيلي حظر تجول مفاجئاً عام 1956 حتى إذا عاد رجالها من أعمالهم وجدوا في انتظارهم جنود الاحتلال الذين ارتكبوا فيهم مجزرة دامية. ويصور الفيلم ما قبل المجزرة وما بعدها في شهادة فنية وإنسانية على الحال الحرجة لعيش الفلسطينيين. والفيلم الثاني هو “بيروت – اللقاء” (1982) عن لقاء لم يتم بين رجل وامرأة كانا صديقين في مرحلة الدراسة الجامعية قبل الحرب الأهلية، فصار الرجل مهجراً من الجنوب الى بيروت والمرأة التي تسكن بيروت الشرقية تتهيأ للهجرة من لبنان بعد الانهيارات التي سببتها تلك الحرب. الفيلم الثالث “خلص” (2007) عن انسداد الأمل وتهافت الأوهام والاستعداد القدري لتجدد حرب لا تني تدمي القلب وتحطم الروح.

وفي تراث برهان أفلام قصيرة وثائقية بينها فيلم بالفرنسية عن دول الخليج العربي. أبرز هذه الأفلام “لا يكفي ان يكون الله مع الفقراء” عن المعماري المصري حسن فتحي والعودة الى المادة الأساسية للعمارة التراثية التي تتلاءم مع البيئة، أي عمارة الفقراء التي تكرس الانسان بالطبيعة حيث يعيش. وهناك ايضاً أفلام “رسالة لزمن الحرب” و “رسالة لزمن المنفى” و “اليك أينما تكون” و “مازن والنملة”.

رحل برهان علوية بعدما حفر اسمه عربياً ودولياً، لاحقاً بمارون بغدادي ونهلة الشهال وجوسلين صعب وجان شمعون. الجيل الذي غامر بإنجاز سينمائي في وطن يخلو من صناعة سينمائية، جيل أحلام السبعينات التي تعدت المحلية الى أسئلة الانسان العربي بأبعادها المختلفة.

شارك المقال