مسارات متصادمة: حكومة إنقاذ ومشروع إيران وتوريث باسيل

عبدالوهاب بدرخان

كما قيل عن حكومة “طالبان” في أفغانستان سيقال عن حكومة “حزب إيران/ حزب الله” في لبنان، بأن المجتمع الدولي سيعاملها بناءً على أفعالها. بالطبع ثمة فارق بين كابول وبيروت، فحكومة الملالي “الطالبانية” لم تتطلّب ولادتها أكثر من ثلاثة أسابيع وقد جمعت غالبيةً ساحقة من القتلة الموصوفين وليس فقط ثلثاً معطّلاً من المتشدّدين، أما حكومة ممثل الولي الفقيه اللبنانية فاستغرقت ثلاثة عشر شهراً من الأبحاث الدؤوبة لإيجاد الأشخاص الذين أمكن توزيرهم بعد لأيٍ وشدٍّ وجذب ووساطةٍ بين الصُهرين. لكن حكام كابول لم يسمحوا بأي تدخّل خارجي في تشكيل حكومتهم، أما منظومة السلطة في بيروت فضربت الأرقام القياسية في “استجرار” التدخلات ليفاخر “الحزب” و”التيار العوني” بعدئذ بإحباطها، الى أن تهيّأت أخيراً معادلة “باخرة نصرالله” + المهاتفة بين الرئيسين الفرنسي والإيراني + زيارة الوفد الوزاري المظفّرة الى سوريا التي عاملت لبنان كأنه يتسوّل منها مع أنها ستجمرك الغاز المصري والكهرباء الاردنية.

بذلك اكتمل مسار استغلال حكومة حسان دياب وآن لها أن ترحل. كانت حلقة متقدمة في المشروع الإيراني، وأمكن خلالها لزعيم “الحزب” أن يثبّت نفسه حاكماً مطلقاً مسؤولاً عن منظومة السلطة، لكنه غير معني بحكومة أو بمجلس نواب أو بقضاء، لم يعد يحرجه شيء على الاطلاق، لا ضحايا انفجار المرفأ وأهاليهم، ولا تصفية الشهود المحتملين في جريمة المرفأ، ولا الخنق المعلن مسبقاً لصوت ناقد مثل لقمان سليم. كذلك كانت حكومة حسان دياب الديكور الذي سمح لرئيس “التيار” جبران باسيل بأن يثبّت نفسه رقماً صعباً في معادلات الحلّ والربط، أقلّه في ما تبقّى من عهد عمّه رئيس الجمهورية، وقد استخدم حاجة “حزب إيران” إليه الى حدٍّ أنه بدا في الأزمة الحكومية وكأنه هو من يروّض “الحزب” وليس العكس. ورغم أنه أفرج أخيراً عن حكومة نجيب ميقاتي إلا أن حملة أحقاده لم ولن تنتهي، بل ستتخذ أشكالاً مختلفة.

قبل أي أحد آخر سيكون اللبنانيون أول من سيحكم على الحكومة الجديدة. لا ننسَ أنهم سبق أن راهنوا على أي بريق أمل رُمي إليهم أو لاح أمامهم، من حكومة دياب الى المبادرة الفرنسية الى تكليف مصطفى أديب فتكليف سعد الحريري، وكل يوم يمرّ يشعرهم بأن ودائعهم طارت وتبخّرت، وبأن ليرتهم ما عادت تساوي شيئاً، وبأنهم مدعوون الى مزيد من الذلّ، كما لو أن حياتهم صارت انتحاراً بطيئاً. ورغم أنهم اكتشفوا وحشية الطبقة السياسية ومافيا الاحتكار المنبثقة منها فإنهم يريدون أن تكون هناك حكومة جديدة علّها تستطيع لجم الانهيار. كذلك أراد المجتمع الدولي أن تكون هناك حكومة يمكن التعامل معها ولا يراهن صانعوها على “الاهتراء”، كما وصفهم الرئيس الفرنسي. كان الأطراف الخارجيون مذهولين أمام حجم فساد منظومة الحكم فامتنعوا عن أي مساعدة للبلد تراها مسبقاً ذاهبة الى أيدي الفاسدين.

يريد الرئيس ميقاتي أن يبدأ التفاوض مع صندوق النقد الدولي في أقرب وقت، فهل ضمن مسبقاً أن الأسباب التي أجهضت التفاوض السابق قد زالت؟ وما دام البلد “منشّف” مالياً، فهل ستتفق الحكومة والمصارف والبنك المركزي ومجلس النواب هذه المرّة على أرقام موحّدة وبمهلٍ زمنية سريعة؟ وتطول لائحة الأسئلة بعدد المآسي التي يعيشها اللبنانيون ولا تنتهي، ولعل أبرزها هل سيتمكن فعلاً من جعل حكومته فريق عمل متجانساً طالما أن كلّاً من أعضائها “مستقل” لكن فريقاً سياسياً اختاره واختبره ثم عيّنه. والمهم كيف سيطلب من الناس “شدّ الأحزمة” أكثر مما هي مشدودة واقعياً وقسريّاً من دون أن يريهم أملاً بالنسبة الى أموالهم؟ لا أحد يتوقع أن يُعطى ميقاتي وحكومته صلاحيات استثنائية، وهذا يعني أنه لن يتمكّن من تنفيذ العديد من الإصلاحات الاستراتيجية التي يطلبها صندوق النقد ولا يمكن “حزب إيران” أن يوافق عليه، وسبق لزعيمه أن شرح ذلك في عدد من خُطبه.

انتهى مسلسل التأليف، الكئيب والملتبس، ليصبح الوضع كالآتي: هناك حكومة يقدّمها رئيسها كمشروع للإنقاذ لكن من دون أوهام، وهناك “حزب إيران” ومشروعه المستمر مع حكومة أو من دونها، وهناك “العهد” الذي تقترب نهايته الفعلية المنتظرة بفارغ الصبر لكنه لا يرى نهايته من دون توريث باسيل. إذاً، ثلاثة مسارات متصادمة:

الأول، الذي يراهن عليه الداخل والخارج، هو الحكومة التي تنطلق من أن البلد في حال سقوط حرّ ويحتاج الى مساعدة لرفعه من الهاوية. وهذه المساعدة مشروطة بإصلاحات لم تكن لتمرّ بسهولة قبل الأزمة فكيف ستمرّ ما دام 73 في المئة من الشعب أصبحوا الآن عند خطّ الفقر أو تحته أو ما تحت تحته، وما دامت السلع والخدمات بلا دعم وتحت رحمة مافيات الجشع، ناهيك بالاستشفاء والتعليم. لا بد من سلوك جلجلة برامج صندوق النقد، لكن شروطاً أساسية لهذه البرامج ستصطدم بمصالح مباشرة لـ “حزب السلاح” المتمتّع بحرية الاستيراد والتهريب من دون أي ضوابط للمنافذ الحدودية.

الثاني، هو مشروع “حزب إيران” المرتبط عضوياً بتقلّبات علاقة طهران مع المجتمع الدولي، وبأجندتها الإقليمية التي أنجزت عملياً ضمّ لبنان الى “محور الممانعة” وإفساد علاقاته مع العالم العربي. هذا “الحزب” برهن للقوى الخارجية أن لا شيء يُنجز في لبنان إلا من خلاله، إذ ساهم في اتصالات اليومين الأخيرين لاستيلاد الحكومة وفي إيجاد المخرج الذي “أقنع” ميشال عون بالتوقيع على مراسيم التأليف. قبل ذلك، لم يكن “الحزب” منزعجاً من ماراتون التعطيل بل ساند ألاعيب عون – باسيل واستفاد من إطالة عمر حكومة تصريف الأعمال بمقدار ما كان ضامناً أن أي حكومة بديلة لن تمسّ بسلاحه مصالحه وأهدافه التي سيواصل العمل من أجلها.

الثالث، هو مشروع “توريث باسيل”، إذ لم يصدّق أحد أن عون لم يحصل على “الثلث المعطّل”، ولعله راعى حليفه “الحزب” بالموافقة على أن يبقى هذا الثلث مستتراً، لكنه لن يتوانى عن التلويح به في أي مناسبة. ستكون هناك اختبارات كثيرة في الشهور المقبلة وستُجرى جميعاً في خدمة التوريث والتمهيد له، سواء في ترتيبات اجراء الانتخابات، أو على العكس بالنسبة الى تطيير الانتخابات إذا لم يكن التوريث مضموناً، وهو بكل السيناريوات لن يكون مضموناً.

شارك المقال