المغرب: القصر يختم “البيجيدي” بـ”نهاية الصلاحية”!

عبد الرحيم التوراني

من أجل فهم ما جرى وحدث بسقوط حزب العدالة والتنمية (بالمختصر “البيجيدي”) في المغرب، لا بأس من عودة سريعة إلى الوراء.

بعد ثورات الربيع العربي (2011) التي عمت البلاد العربية، ومنها المغرب، متمثلة في “حركة 20 فبراير”، عملت الدولة المغربية على امتصاص الغضب الشعبي واحتوائه، وتجنب مآلات مشابهة لما حدث في دول أخرى، مثل تونس ومصر وسوريا. بادر العاهل المغربي إلى الاستجابة لمطلب تغيير الدستور بتقديم دستور جديد أعدته لجنة ملكية معينة طُرح للاستفتاء الشعبي. على الرغم من جملة من الانتقادات منها بأنه دستور ممنوح، اعتبر دستور 2011 من الدساتير المتقدمة في المنطقة العربية، وعلى أساس بنوده جرت الانتخابات التي صنعت الحدث الكبير والمفاجئ بصعود إسلاميي حزب العدالة والتنمية بقيادة عبد الإله بنكيران الذي عيّنه الملك رئيساً للوزراء بناء على تصدّر حزبه لنتائج الانتخابات.

ولأن بنود الدستور الجديد والقوانين الانتخابية المنبثقة منه لا تسمح لأي حزب بنيل الأغلبية المطلقة، فقد قاد بنكيران تحالفاً مع أحزاب ليبرالية، بينها وزراء من حزب التقدم والاشتراكية. وتكررت هيمنة حزب العدالة والتنمية على مقاعد برلمان 2016 أيضاً، لكن أمينه العام لم يتمكن من الاستمرار في منصبه رئيساً للحكومة، بالحصول على الأغلبية القانونية. ليطول عمر “البلوكاج” أشهراً زادت عن نصف سنة، ولم تفك عقدة تشكيل الحكومة إلا باستسلام عبد الإله بنكيران وتعويضه برئيس المجلس الوطني لــ”البيجيدي” سعد الدين العثماني. كانت أسباب إبعاد بنكيران معروفة، وهي حضور شخصيته بشكل طاغ في الإعلام، ولغته الشعبوية بالعامية المبسطة التي تفهمها كل الفئات والشرائح الاجتماعية، وتبجحه في مرات عديدة بدور حزبه في تجنيب المغرب “ويلات الربيع العربي”، مذكرا في كل وقت وحين بالجميل الذي حققه الإسلاميون لصالح استقرار وأمن الوطن، حتى “بات المغرب مضرب المثل عربياً وإقليمياً ودولياً”.

لذلك جيء بالطبيب النفسي سعد الدين العثماني كبديل من الحزب الإسلامي عينه. وخلافاً لسلفه بنكيران فإن العثماني قليل الكلام، ووصف بأنه أضعف رئيس حكومة في تاريخ المغرب المستقل على الإطلاق، إذ صرح في تجمع شعبي أنه بعد وصوله هو إلى منصب رئاسة الحكومة فإن أياً كان بإمكانه تحقيق ذلك. وأوقعته زلة اللسان هذه في الألسن الساخرة.

تميزت فترة العدالة والتنمية في الحكومة عبر ولايتين خلال عقد كامل من السنوات بالكثير من التراجعات على مستويات عدة، اقتصادية واجتماعية أساساً. أما المشاريع العمرانية والإنمائية الكبرى التي تحققت في هذا العقد فلا تحسب للحكومة بقدر ما هي للدولة بشخص الملك محمد السادس.

“إسلاميو القصر” كما يسمون في المغرب، لأن ولادتهم الشرعية اكتملت في حضن الدكتور عبد الكريم الخطيب المقرب من أعلى السلطات، ضربوا بكل الوعود والشعارات التي رفعوها في حملاتهم الانتخابية، وفي مقدمها محاربة الفساد، واعتداؤهم على مكتسبات صندوق المقاصة وامتيازات قانون التقاعد، وتطبيقهم الحرفي لنصائح صندوق النقد الدولي، وجرأتهم غير المسبوقة في تاريخ الحكومات المغربية بالمس بالمكتسبات المتراكمة عبر السنين. ثم قبول بنكيران الاستفادة من تقاعد استثنائي يصرف له شهرياً بآلاف الدولارات، وهو تقاعد لا مثيل له في العالم، ولم ينله لا باراك أوباما ولا دونالد ترامب بعد نهاية المهمة في رئاسة أكبر دولة في العالم.

يأخذ المغاربة على حزب العدالة والتنمية ركوبه قافلة الإفساد ورعايته، وتورط عدد من وزراء الحزب الإسلامي ورموزه القيادية في الإثراء السريع والفاحش وسوء التدبير، وفي فضائح جنسية، أبرزها فضيحة الفقيه عمر بن حمّاد والداعية فاطمة النجار في شاطئ “القمقوم” بمدينة المحمدية، والوزير محمد يتيم مع المدلّكة في باريس، والعلاقة التي ربطت وزيرين متزوجين من العدالة والتنمية، على الرغم من أن الوزير الحبيب الشوباني والوزيرة سمية خلدون قاما بـ”تحليل” علاقتهما بطلاق الوزيرة من زوجها وأب أولادها لتدخل الحريم المصون للوزير الشوباني.

وزادت وتيرة حدة قمع احتجاجات الشارع، والتنكيل بالمكفوفين المتظاهرين، وقمع حركة الأساتذة المتعاقدين والمعطلين من اصحاب الشهادات العليا. وبلغت متابعات ومحاكمات الصحافيين والمدونين درجة غير مسبوقة في السنوات التي تولى فيها حزب العدالة والتنمية الشأن الحكومي.

لقد كانت السياسة اللاشعبية التي اعتمدوها من أسباب ارتفاع أعداد المقاطعين للانتخابات والملتحقين بصفوف العزوف السياسي، ممن أصبحوا لا يؤمنون بالمؤسسات ولا بالانتخابات وقدرتهم على التغيير من خلال صناديق الاقتراع.

كل هذا يجب أن لا يقنعنا بأن السقوط المدوي لـ”البيجيدي” أتى منطقياً تبعاً للمعطيات السالفة، فلا أكبر المتفائلين من خصوم العدالة والتنمية، ولا أكبر المتشائمين من المتعاطفين مع هذا الحزب كان ينتظر هذه النتيجة التي وصفت بـ”المجزرة”، فمن 125 مقعداً في انتخابات 2016 إلى 13 مقعداً في الانتخابات الأخيرة (سبتمبر/أيلول 2021).

وقد كتب أحد أعضاء الأمانة العامة لـ”البيجيدي” في تدوينة له: “إنها نتيجة عصية على التحليل ولا يقبلها أي منطق سياسي أو سوسيولوجي أو غيره”.

لكن العديد من المتتبعين يذكرون بأن تاريخ الانتخابات هو تاريخ طويل من التزوير، إذ لم تجر في المغرب أي انتخابات حظيت بالإجماع على نزاهتها وصدقيتها، دائما تتدخل وزارة الداخلية التي تشرف على الانتخابات بدلاً من أن تشرف عليها هيئة مستقلة. وغاب عن قادة “البيجيدي” كيف هللوا للديموقراطية المغربية بالامس لما طُبِخ فوزهم في 2012 و2016 لغايات وأهداف مرغوب فيها، وأن ترجلهم اليوم يحصل بالأسلوب والطريقة عينها، فمن تحلق حولهم يوم كانوا في السلطة ينصرف عنهم اليوم.

كيف لم يدركوا أن “المخزن” لا يثق في جميع من ينحنون ويقبلون يده، كما لم يستوعبوا الثقافة الشعبية المغربية وأمثالها الدالة، ومنها القول السائر: “الله ينجيك من البحر والنار والمخزن”، والقول الآخر: “ولد المخزن يتيم”.

لقد تم التشكيك في نزاهة العملية الانتخابية، بل إن الحزب الاشتراكي الموحد وفيدرالية اليسار نددا بالخروقات التي شابت عملية الاقتراع، هو نفس الشجب والتنديد الذي صرخ به إخوان العثماني، فمحاضر الاقتراع لم تسلم للمراقبين، ونقل الناخبين بالحافلات والعربات لم يتوقف طوال نهار التصويت، وتوزيع المال كان على مرأى السلطة أمام مكاتب التصويت.

في إحدى التسريبات الأولى لوثائق “ويكيليكس” نقرأ وثيقة هامة تضمنت موقف الملك محمد السادس من الإسلاميين، إذ نقل عنه مسؤول أميركي كبير أن “لا فارق بين صقور وحمائم الإسلاميين، كلهم عملة واحدة بوجهين”. تأسيسا على هذا التصريح يبدو أن العدالة والتنمية فرضت في سياق إطفاء حرائق ثورات الربيع العربي التي امتد لهيبها إلى المغرب. كما أن الموقف الأميركي من الإسلاميين حينها شجع على الدفع بالعدالة والتنمية إلى المراتب الأولى في البرلمان وبالتالي قيادة التحالف الحكومي.

وإثر تحول الاستراتيجية الأميركية، وقد مرت عشرون سنة على انهيار “توين سنتر”، صادفت خروج القوات الأميركية وجيوش حلفائها من أفغانستان، كان لا بد من التخلص من إسلاميين أثبتوا ضعفهم، وغياب مشروع اقتصادي متكامل حقيقي لديهم.

هذا من دون أن ننسى توقيع سعد الدين العثماني على وثيقة التطبيع من دون الرجوع لا إلى الحكومة ولا إلى البرلمان ولا إلى الشعب أو إلى الاستشارة مع قيادة حزبه. فكانت الضربة القاصمة، التي كشفت انتهازية هذا الحزب وانبطاحه لما يملى عليهم من القصر. علماً أنه ليس ببعيد ذاك العهد الذي كان يخرج فيه سعد الدين العثماني إلى الشارع في التظاهرات تضامنا مع فلسطين ويرتقي الأكتاف هاتفا “الموت لإسرائيل”، أو ينشر فيه موضوعا بعنوان: “التطبيع خيانة عظمى”.

في سنة 2002 تخلى القصر عن الاشتراكيين الذين كانوا يقودون حكومة “التناوب التوافقي” برئاسة الراحل عبد الرحمان اليوسفي، على الرغم من تبوئهم المرتبة الأولى في الانتخابات، مما أطلق عليه اصطلاح “الخروج عن المنهجية الديموقراطية”. ويظهر أن إخوان المغرب لم يعتبروا، فتم إخراجهم بـ”المنهجية الديموقراطية” وعلى رؤوس الاشهاد.

هزيمة مؤلمة ومذلة لن يستطيع الحزب الإسلامي تجاوزها بسهولة، وربما لن يرفع بعدها الرأس.

أما طريق الوصول إلى الديموقراطية الحقة فطويل ويحتاج للكثير من الصبر والمعاناة حتى تظهر معالمه. و”الطريق طويل لولا الوصول” كما قال يوما الشاعر العربي ابن الرومي. و”على قدر حلمك تمشي وتتبعك الزنبقة أو المشنقة”، حذَّر محمود درويش.

شارك المقال