في “السيد الوزير”

علي نون
علي نون

ليس وزير بشار الأسد في لبنان سوى شيء أسدي ولا يمكن ان يكون غير ذلك، حتى لو كان حاملاً للهوية اللبنانية، او إعلامياً يفترض به ان يكون أعلم من غيره بتلازم المصير والمسار بين الإعلام والحرية وبين الإعلام والإبداع الخارج حكماً على حدود عسف الاستبداد السلطوي.

وليس جورج قرداحي ذلك المثال الذي يعتدّ به في أصول ذلك الترابط بين الاعلام والحرية، ولا الألمعي الذي يعرف التمييز بين الصح والغلط وبين بناة الدول والعمران والطغاة الذين يدمرون بلادهم وينكبون شعبهم بحجة الدفاع عنها وعنهم! هو اعلامي براني ناجح شكلاً وبائس مضموناً وفعلاً وربما يعود ذلك لكونه ضحلاً ثقافياً وموتوراً سياسيًا مثلما انه، واستناداً الى تصريحاته ومواقفه، يبدو بالمعنى الانساني اشبه بالتمساح !

هذا إعلامي سلطوي ومثله كثر، لكن الفارق الحساس بينه وبين امثاله هو انه لا يعرف التمييز بين الولاء الاعمى لصاحب السلطة والولاء البشري للضمير، او لما يسمى في لغة العصر حقوق الانسان وبديهيات الزمن المعاصر. ويفترض تبعا لذلك، وبضراوة الموتور، ان الفتك بملايين المدنيين السوريين وتخريب ديارهم وتهديم عمرانهم وتهجيرهم من ارضهم وارزاقهم وجنى الاعمار هو تصد للارهاب ورد طبيعي على الخروج الجماعي ضد الطغيان والاستبداد، وتغييب حكم القانون وانتهاك الحقوق العامة والخاصة واستباحة الدولة ومؤسساتها واختصار كل شيء بطغمة حزبية فئوية مافيوية لا ينقصها شيء من عدّة شغل القرون الوسطى في مطالع القرن الحادي والعشرين.

لم تكشف فلتة لسانه الاولى في بيروت سوى ما يختزنه وعيه الاسدي، لكن من دون ان ينتبه الى انه في بيروت وليس في دمشق الاسد ولا طهران ولا في بيونغ يانغ! وكأنه لم يعش في لبنان، ولم يمارس مهنته في باريس، ولم ينتعش في “ام بي سي” لندن ولم يراكم ما يكفي من رؤى للتمييز بين حامل الكاميرا وحامل كاتم الصوت، ولا بين حامل قلم وحامل عبوة ناسفة، ولا بين غرفة الاخبار وغرفة التعذيب ولا بين استديو التلفزيون ودهاليز الاجهزة الامنية… جاء من وعي اسدي بثياب مدنية عادية ومن وعي بعثي بعنوان اعلامي ومن وعي فئوي بشعارات انوية نافرة وحادة ومن وعي أمني مريض بستار حرية مدعاة، وعندما اراد تبرير لسانه غدره طبعه المبدئي وأذلّه مجدداً.

وقرداحي لا يظهر شيئا غير معروف عنه. هو كان ولا يزال مع بشار الاسد المتهم باغتيال رفيق الحريري، ثم بالمشاركة في سلسلة اغتيالات طالت كبار السياديين في لبنان، ثم في اغتيال سوريا نفسها وتدميرها وتفتيتها وفتحها امام جيوش خمس دول في موازاة تهجير ملايين السوريين من وطنهم، وفي مقابل اعتماد صمت القبور في الجولان المحتل. قرداحي الاعلامي لا يتورع عن اشهار الاصطفاف الى جانب ديكتاتورية تجد في ستالين مثالاً يحتذى وأيقونة تعلق على الصدور، ولا يتورع عن إشهار قلة وفائه لمن جعل منه نجماً تلفزيونيًا ولمن رعاه مادياً ومعنوياً ومهنياً، لمن مشى معه وأوصله الى ما لم يكن يحلم بجزء يسير منه.

لا يناقش “السيد الوزير” في خياراته واصطفافاته وارائه، فهو حر فيها وذلك حقه البديهي، لكن ما لا يقبل منه هو الإدعاء بإنه وزير اعلامي اكثر من كونه صاحب موقف أسدي ممانع، وان يحاول تبرير ما لا يبرر في شأن من يجب ان يحكي على المحطات التلفزيونية ومن يجب ان يحجب، والانكى من ذلك هو التعليل الذي طرحه لجهة ضرورة عدم إشاعة أجواء عدمية واحباطية وخرابية، وكأنه آت من عالم اخر غير هذا العالم، ولا يعرف أحوال لبنان وأهله، ولا الجحيم المفتوحة التي أوصلهم إليها أصحابه وخلانه، ولا الارتكابات والفظاعات التي ألحقت باللبنانيين (والسوريين استطراداً). ويريد تبعًا لمعلوماته وآرائه وتوجهاته ووفق المنطوق الاسدي الأثير عنده من الناس ان ترضى بالضيم وتسكت، وبالقهر وتضحك، وبالذل وتصفق، ثم بعد هذا وذاك، ان تشكر المستبد على استبداده والمجرم على جريمته!

كأنه في بيروت في غير مكانه حضرة السيد قرداحي، ويريد من الإعلام اللبناني ان يتماثل مع إعلام البعث في دمشق ومع محطاته المتلفزة خصوصاً، حيث الدنيا عندها بألف خير، والعمران في ذروته، والناس يحسدون على النعم التي يتمتعون بها، ويشكرون على مدار الساعات والأيام بشار الاسد وتركيبته النظامية على إنقاذ سوريا! وإكرام أهلها! وتعلية بنيانها في العالمين وايصال البلد في جملته الى مصاف الدول العظمى!

إقرأ أيضاً: رفض كامل لطلب قرداحي كمّ الأفواه

يريد السيد قرداحي من اللبنانيين أن يتماثلوا مع اشقائهم في القطر السوري، وان لا ينكروا النعم المحيطة بهم من كل جانب، وان لا يكفروا بالعطايا الربانية التي أوصلها اليهم محور الاسد ايران، والذي لم يترك، السيد قرداحي، ايا من اقانيمه البشرية والايقونية من دون تقديم واجب الولاء والطاعة والاحترام لها. مثلما انه لم ينس البعد الدولي في هذه المنظومة الحداثية الحضارية المتمثل بفلاديمير بوتين شخصيا!!

ومرة اخرى: من حق السيد قرداحي ان يلتزم ما يناسبه من مواقف سياسية متماهية مع منظومة ممانعة اسدية إيرانية، معادية للمجموع العربي ولدول الاعتدال والرحابة والوسطية، وفي مقدمها المملكة العربية السعودية، وان يذهب في الغلو الى حدود بعيدة. لكن ليس من حقه ان يرسم حدودا للإعلام اللبناني بواسطة مسطرة اسدية او إيرانية، ولا ان يدعي ما ليس فيه وما لم يظهره من احترام لزملائه المختلفين عنه بالرأي والضمير وأصول المهنة وقيمها وطبيعتها في لبنان!

شارك المقال