طفولة مسلوبة… وصحة نفسية محطّمة!

جنى غلاييني

أطفالٌ لا ذنب لهم بما يحصل، يعيشون سلسلة أزمات تتأصّل في نفوسهم، ليسمعوا من أهلهم الموال عينه كل يوم، “أديش الدولار اليوم؟ ما في بنزين والمحطات مسكرة، ارتفع سعر البنزين، الدولار عم يطير، يا الله راحت الكهرباء الله لا يوفقهن، المدارس مش عارفة حالها إذا رح تسكر أو تفتح، مش قادر جيب غراض للبيت، مش قادر ضهركم ما في بنزين بالسيارة ولا مصاري بالجيبة، في قواص فوتوا لجوا…”، وما شاكل من كلامٍ يجعل الطفل يشعر بأنّ تلك الأمور أكبر من عمره وقدرته على فهمها، ممّا ينعكس سلباً على صحته النفسية التي باتت تحرمه من أن يعيش طفولته بشكل سليم.

أيام عصيبة على لبنان، لكن الأصعب هي بصماتها عند أطفالٍ لا يعرفون إلا الفرح واللعب، لتشكّل ضغوطاً نفسية ومشاغل فكرية لم يعتادوها من قبل. وفي هذا الخصوص، تفيد المعالجة النفسية هانيا كنيعو لـ”لبنان الكبير”: “يوميات الطفل الذي يعيش في لبنان كلّها مسؤوليات تفوق عمره، وذلك من خلال سماعه لأحاديث أهله عن الأوضاع الاقتصادية والحالة المعيشية وأزمات البنزين وغيرها. لذا من الخطير جداً أن يتأثّر الطفل بتلك الأمور وأن يحمل همّها”.

وتشرح أنه “في حال أخرجوا الأهل طفلهم في نزهة، فسيولد عنده الشعور بنوع من الذنب والتفكير بأنه يتسبّب بنفاد البنزين من السيارة، في الوقت الذي يجب أن يشعر بالمرح واللهو. من هنا، يبدأ الطفل بالإحساس أنّه ثقيل على أهله. وعلى الرغم من هذا كله، هناك أطفال اعتادوا سماع المشاكل اليومية التي تحل بالبلد، وهؤلاء الأطفال لديهم سلوكياتهم الخاصة في التعامل مع بعض الأمور، فإذا أخرجنا هذا الطفل في نزهة، فستتشكل عنده إمّا الصدمة لأنّه غير معتاد على العيش في مسؤوليات تلائم عمره، أو سيستخدم أسلوب العنف من خلال ضرب غيره”.

وتستطرد كنيعو: “إنّ كل ما ذكرناه سابقاً يؤثّر في طموحات الطفل ومستقبله، بحيث ستنعدم نظرته للمستقبل وستنحصر بأبسط الأمور الحالية، ليصبح طموحه ساعة كهرباء مثلاً أو أن تجد والدته الدواء الذي تبحث عنه. كما يتعرّض الطفل لتحطيم آماله وطموحاته من خلال أبسط الكلمات التي تؤثّر مباشرةً في نفسيته، لذا كل الضغوط التي يعيشها الطفل اللبناني تحجب له رؤية طموحاته”.

وتشدد على أنّ “الأهل في الوضع الحالي غير مدرّبين على التعامل مع أطفالهم بشكل صحيح، لذا بدلاً من إحساسهم بالذنب، الأفضل أن يلجأوا إلى اختصاصيين يساعدونهم على تكوين صحة نفسية سليمة لهم ولأطفالهم”.

وبأسف تقول أنّ “الأزمة الاقتصادية أصبحت تشغل بال الكبار والصغار، لكونها باتت تؤثّر في الطفل بطريقة مباشرة وغير مباشرة، من خلال حرمانه من النزهات أو الأنشطة، مما يؤدي إلى انعكاسها على صحته النفسية”. وتتابع: “طالما يعيش الطفل في بيئة تتداول فيها الأحاديث السلبية من أهله وأقاربه، ويرى تعابير الوجوه القلقة والمهمومة، فلا شك أنه سيستحوذ على قدر من الخوف والقلق والتوتر، والإحساس بعدم الاستقرار وقلة الثقة بالنفس واندفاعه لمعرفة كل ما يجري في لبنان، ولمعرفة لماذا لا يعيش طفولته بشكل سليم”.

وتختم كنيعو: “الحل يكمن في إنشاء شبكة تواصل بين الأهل وأطفالهم للإجابة على تساؤلاتهم ولتوضيح الصورة أكثر عمّا يمر به البلد من أزمات، من دون استعمال الكلمات التي تثير الخوف عند الولد مثل الحرب الأهلية، الموت، الرصاص. لذا يجب تبسيط الكلمات المستعملة عند الحديث مع الطفل، ويجب على الأهل إبعاد الطفل عن شاشات التلفزيون عند عرض نشرات الأخبار، كما يجب قيامهم بأنشطة منزلية لأطفالهم بدلاً عن النزهات”.

“أهلنا ما قادرين يضهرونا لمحل حتّى بأيام الويك أند”، كلمات عبّرت بها لارا محمد، ابنة الـ11 سنة والغصّة في قلبها، لتصف لنا حجم الحزن الذي عرفته باكراً جداً: “أنا على علم بكل ما يحصل في بلدي. الدولار تارةً يرتفع وتارةً ينخفض. الكهرباء لا تأتي إلا ساعةً واحدة في اليوم، وفيها تسرع أمي لتشغيل الغسّالة والقيام بأعمال المنزل، حتّى أنني على علم بأنّ البنزين أصبح غالياً جداً، لهذا السبب أصبح أبي لا يستعمل السيارة”.

أما سلمى علي، بنت الـ9 سنوات، فتصف خوفها الذي تشعر به يومياً: “أخاف من صوت الرصاص، وكلّما سمعته أركض لأختبئ داخل خزانتي. ثم تأتي أمي لتحضنني وتبدّل ملابسي التي تبوّلت فيها لشدّة خوفي”.

كلمات تقشعر لها الأبدان، لكنها لا تحرّك ساكناً، في بلد يسلب كل يوم طفولةَ أولاده الذين ولدوا فيه، ليعيشوا ذنباً وحيداً أنّهم لبنانيون.

شارك المقال