مجزرة بيئية… وعدل بيروت الضحية

رامي عيتاني

هي المظلومة والمغبونة دائمًا في دولة اللادولة وفي وطن اللاوطن، فلا تجد من يدافع عنها أو يتصدى للمجرم قبل ارتكاب فعلته بها، كما الإنسان، كذلك هي الطبيعة عندنا، مُباحة للطمع وثقافة الربح السريع وتكديس الثروات في المصارف، ولو جاء ذلك على حساب الإنسان والبيئة المحيطة به. أمّا المشارك عادة في هذه الجرائم البيئية ويتحمل المسؤولية بالدرجة عينها مع المنفّذ فهو الإهمال، المُمثل بالوزارات المعنية بالدولة اللبنانية والبلديات وغياب الرقابة وغياب الروادع عن استسهال النيل من كرامة الإنسان في بلد أشبه بوطن الموز والماوماو.

فنهار السبت بتاريخ 11/12/2021 لم يكن يوما عاديًا في الباحة الخارجية لقصر عدل بيروت، على الأقل بالنسبة إلى مجموعة أشجار معمَّرة اقتضى الفأس والآلات القاتلة أن تضع خلال دقائق حدّاً لعمرها البالغ أكثر من مئة عام، على الرغم من تدخل نقيب المحامين في بيروت ناضر كسبار وأمين السر سعد الدين الخطيب وبعض أعضاء مجلس النقابة. 

وفي تلك الساعة المشؤومة، لم يكتفِ ذاك الرجل المكلّف إلا أن يكلّف نفسه بقطع أشجار قصر عدل بيروت المعمّرة وبعضها يشهد على تاريخ ناصع من نوستالجيا عريقة لقضاة ونقباء ومحامين وموظفين مروا على هذا المعلم، وحفروا أسماءهم أحيانًا بإنجازات العصر الذهبي للعدالة في لبنان وأحيانًا أخرى حفروها على جذوع الأشجار الراسخة من تاريخ لبنان… لم يكتفِ ذاك الرجل وفي قلبه حقد غير مألوف، حتى انهال بالشتائم على القضاء والمحاماة برمتها، ولم يرتدع إلّا بعد أن تدخّل النقيب وأمين السر والأعضاء وإلّا لما بقيت شجرة واحدة في مكانها، وكأننا به ينفذ أمر عمليات من أجل تدمير الأخضر واليابس داخل قصر العدل وقطع النفَس الصاعد منها نهائيًّا وتعرية الباحة الخارجية من أي طابع جمالي.

إلّا أن الأخطر من ذلك كله وفي أبشع منظر تشهده العدلية منذ زمن بعيد، كان التطاول على المحامين والقضاة في عقر داريهما من دون مهابة ومن دون رادع للأسف.

هذا ما حصل البارحة في قصر عدل بيروت، إلّا أنّ جريمة الأمس لا تختصر وابل الجرائم الحاصلة بحق البيئة وعناصر الطبيعة في هذا البلد، وبشكل عام فإن الجرائم البيئية في بلد مثل لبنان يفقد باطّراد ثروته الحرجية وهي الثروة الوحيدة التي تميزه عن محيطه، لا يجب التساهل فيها بعد أن كانت هذه الطبيعة مصدر وحي للكتاب والشعراء حتى الأجانب منهم، فطبيعة جبال لبنان تتهاوى بسبب مافيات الكسارات ومشغليها الذين عاثوا في الصخر فسادًا وفي الطبيعة خرابًا.

أما في المدن بشكل عام وفي بيروت بشكل خاص التي تحوي بعض الشجيرات المعمّرات التي تديرها بلدية قامت منذ فترة قصيرة بإلغاء معلم بيئي هو حديقة المفتي حسن خالد من دون معرفة مصيرها مما شرّع وأباح ثقافة استهداف أيّ معلم أخضر في المدينة وأوصل بنا للأسف إلى هذا اليوم الذي تنتهك فيه أشجار قصر العدل في بيروت من دون وجه حق مع العلم أنّ القرار المكلف به ذاك الرجل هو قرار تشذيب وتشحيل وليس قرار قطع واستئصال ولم يكن من الضروري المسّ بها بهذه الوحشية.

فماذا عن القانون اللبناني في هذا الإطار؟ وماذا عن قوته لردع مثل هذه التصرفات الوحشية بحق الشجر المعمّر؟

بالعودة إلى القانون اللبناني فقد لحظ مبدأ حماية الغابات والأحراج والنظم الإيكولوجية والتنوع البيولوجي، وذلك بموجب قرارات عدّة صدرت منذ الانتداب وحتى اليوم، مع الإشارة إلى أن آخر القرارات في هذا الشأن صدر عام 2010 وهو القرار الرقم 433/1 تاريخ 30/8/2010 يتعلق بـ”تنظيم قطع واستثمار الاحراج والغابات “(3). 

ولكن ماذا في الواقع؟ هل تُطبَّق هذه القرارات عملياً أم أنّها مجرد حبر على ورق؟ وإلى متى ستظل الجرائم البيئية عرضة للإفلات من العقاب مع العلم انه حتى العقوبات المقررة في القانون الحالي لا يمكن اعتبارها رادعة نظرا لعدم شدّتها ولرمزية الغرامات؟

في المحصلة، مهما سُنّ من قوانين ومهما تطورت هذه أو شُدّدت العقوبات وزيدت الغرامات، لا شيء يردع الجاهل من ارتكاب جريمته سوى الوعي بالدرجة الأولى، وهذا الأمر يحتاج اولًا الى إضافة مادة على مناهجنا الدراسية تثقف جيل الغد وتختص بالبيئة وأهميتها وكيفية الحفاظ عليها، وثانيًا أن تطبق هذه القوانين بحزم من قبل الإدارات المعنية بموازاة مواكبة القضاء لإجراءات التوقيف المتخذة بحق مرتكب الجرم من قبل الأجهزة الأمنية، لتسلك بعدها الدعوى القضائية مسارها بالسرعة المطلوبة وبالتالي لتطبيق العقوبة بحق المخالفين في مدة زمنية قصيرة، مما يعطي مثالا ويشكل رادعا قويا للغير بجدية هذه العقوبات، فيحسبون حينئذٍ ألف حساب قبل التعدي على الطبيعة الأم، وهي أمُّنا جميعًا.

وبتاريخ لاحق صدر قانون حماية المناظر والمواقع الطبيعية في لبنان بتاريخ 8/7/1939 أوجب في مادته على وزارة الاقتصاد الوطني تنظيم قائمة جرد عام للمناظر والمواقع الطبيعية التي يكون في صيانتها أو وقايتها مصلحة عامة سواء كان بالنظر إلى الفن أو التنظيم المدني أو السياحة. وتطبق أحكام هذا القانون على جميع المناظر والمواقع الطبيعية أيا كان مالكها سواء كانت للدولة أو لجماعات أو لطوائف أو لأوقاف أو لأشخاص معنويين أو حقيقيين إلخ…

وتعدّ بمثابة مناظر ومواقع طبيعية وفقًا لأحكام القانون أعلاه، الأشجار وفئات الأشجار المنفردة التي يُستصوب حفظها بالنظر إلى عمرها أو جمالها أو قيمتها التاريخية. وإن القيد في قائمة الجرد يوجب على المالك أن لا يباشر في أرضه ولا يدع أحدًا يباشر في إجراء أي تغيير في العقار المقيّد أو في جزء من هذا العقار ولا أحداث أي بناء على الخصوص وبوجه الإجمال يوجب عليه الامتناع عن كل عمل من شأنه أن يغير الهيئة العامة للمناظر أو المواقع الطبيعية أو يفسد أو ينقص أهميتها بالنظر إلى السياحة، كما يوجب عليه الامتناع عن قطع أيّ شجرة أو تشذيبها قبل أن يبلغ قصده إلى وزير الاقتصاد الوطني ويوضح له التغييرات أو الأعمال التي ينوي إجراءها ويحصل منه على الترخيص اللازم.

وبناء عليه يعاقب بالغرامة مع الاحتفاظ بدعوى العطل والضرر التي تمكن اقامتها، كل من يخالف هذه الأحكام المذكورة أعلاه.

أمّا آخر القرارات في هذا الشأن فجاءت في العام 2010 فقد صدر القرار الذي يحمل الرقم 433/1 تاريخ 30/8/2010 يتعلق بـ«تنظيم قطع واستثمار الأحراج والغابات3) ).

وجاء في نص القرار: «ان وزير الزراعة يقرر ما يأتي:

المادة الاولى: يسمح بصيانة أو استثمار الاحراج والغابات وفقا لما يلي: أ – الشروط العامة للتشحيل والتفريد:

1 – يسمح بالتشحيل من 15 ايلول الى 15 نيسان من كل عام ويتم استقبال طلبات التشحيل في مراكز الاحراج من تاريخ 1 تموز الى 15 شباط من كل عام.

2 – تحدد مدة العمل اليومي للاستثمار والنقل من شروق الشمس حتى غروبها (يمنع العمل ليلا).

3 – يمنع منعا باتا إطلاق المواشي للرعي ضمن حدود المقاطع المستثمرة لمدة عشر سنوات.

4 – يمنع القطع النهائي للاشجار ذات الساق الواحدة.

5 – يُسمح بالتشحيل وفقا للشروط التالية: ازالة بعض الاغصان والفروع:

– يتم ازالة الفروع المنحنية ويبقى على ثلاثة فروع في كل جب كحد أدنى على أن لا يقل قطر الفرع عن سبعة سنتيمترات.

– يتم تشحيل أغصان الأشجار ذات الساق الواحدة بشكل ان لا يتعدى ثلث ارتفاع الشجرة كحد أقصى.

6 – يُسمح بتفريد الأجباب وفقا للشروط التالية: 

– اذا كان الانحدار يراوح بين 40 و50%: يجب دوما الابقاء على ستين جبا في الدونم على الأقل على أن يكون توزيعها متجانسا على كامل العقار.

– اذا كان الانحدار بين 15% و40%: يجب دوما الابقاء على خمسين جبا في الدونم على الأقل على أن يكون توزيعها متجانسا على كامل العقار.

– اذا كان الانحدار أقل من 15%: يجب دوما الابقاء على أربعين جبا في الدونم على الأقل على أن يكون توزيعها متجانسا على كامل العقار.

7 – يجب تنظيف ارض الحرج من جميع الأغصان والفروع الناجمة عن عملية الاستثمار لمنع اندلاع الحرائق وذلك على مسافة عشرين مترا على الأقل من الطرقات والأبنية.

8 – يجري نقل الاحطاب بموجب إجازات قانونية خاصة صادرة عن مركز الأحراج المختص.

9 – يمنع حمل النار وإضرامها داخل حدود الحرج وعلى مسافة تقل عن مئتي متر من حدود الحرج وحدود الأماكن المأهولة.

ملاحظة: تعتبر هذه الشروط جزءا لا يتجزأ من الرخصة وكل مخالفة للشروط المذكورة اعلاه تعرض مرتكبها للملاحقة القانونية بالتكافل والتضامن مع مالك العقار.

المادة الثالثة:

أ – يسمح بقطع او كسر الاشجار التي تعيق اعادة استصلاح اراض زراعية متروكة وفقا للشروط التالية:

1 – ان تكون نسبة الغطاء الحرجي ما دون الـ 30% من مساحة العقار الاجمالية.

2 – ان تكون نسبة الانحدار ما دون 40%.

3 – ان تكون الاشجار الحرجية موضوع الطلب من نوع الاشجار الورقية فقط.

4 – الحصول على موافقة المشروع الاخضر (اذا كان الاستصلاح على حساب المشروع الاخضر).

5 – تقديم تعهد لدى كاتب العدل باعادة الزرع في مهلة اقصاها 6 اشهر من تاريخ صدور الرخصة مع تحديد بند جزائي في التعهد بمعدل 200000 ليرة لبنانية عن كل شجرة أو جب مقطوع بالاضافة الى حق وزير الزراعة باصدار قرار بالزام المستدعي بإعادة تحريج العقار في مهلة ثلاث سنوات والا يتم تطبيق نص المادة 97 من قانون الغابات لجهة استملاك هذه الارض وبيعها بالمزاد العلني لتحريجها أو وضع اليد عليها لتحريجها على نفقة الوزارة ويعفى المستدعي من هذين البندين في حالة الظروف القاهرة التي يعود امر تقديرها لوزير الزراعة.

6 – يمنع منعا باتا قطع الاشجار المعمرة والنادرة التي تحددها وزارة الزراعة بناء على النصوص القانونية النافذة.

ب – يمنع استصلاح الأحراج أو الغابات المحددة بناء على الافادة العقارية وعلى كشف مركز الاحراج.

ج – يكون تقديم الطلبات والمستندات بناء على نص المادة الثانية من هذا القرار.

المادة الرابعة:

أ – يسمح بتشحيل أو قطع الاشجار التي تعيق اظهار حدود/ شق طرقات داخلية/ أو وضع شقلات لزوم تشييد بناء وفقا للشروط التالية:

1 – تقديم افادة من البلدية المعنية تثبت بان الاشجار تعيق عملية اظهار الحدود أو شق طرقات أو وضع الشقلات.

2 – تقديم خريطة صادرة عن طوبوغراف مجاز تحدد الموقع وعدد الاشجار المطلوب قطعها.

3 – يسمح بقطع 3% كحد اقصى من مساحة العقار الاجمالية ويعود لوزارة الزراعة الحق في تحديد عدد الاشجار المسموح قطعها.

ب – يكون تقديم الطلبات والمستندات بناء على نص المادة الثانية من هذا القرار.

المادة السابعة:

يسمح بقطع الاشجار الحرجية بداعي الحفاظ على السلامة العامة على ان يتم ضم صور فوتوغرافية تظهر بشكل واضح الاشجار التي تشكل خطرا على السلامة العامة بعد تأكيد مركز الاحراج على ذلك.

المادة الثامنة:

في المخالفات في حال مخالفة احكام هذا القرار يتم تنظيم محضر ضبط بحق المخالف (مالك العقار أو الملتزم) واتخاذ الاجراءات التالية:

1 – تطبق العقوبات المنصوص عنها في قانون الغابات وتعديلاته.

2 – يمنع الملتزم من الحصول على رخصة استثمار لمدة ثلاث سنوات.

3 – يمنع العمل في العقار موضوع المخالفة لمدة خمس سنوات .

من ناحية أخرى، يسجل أن هناك تقدما حصل بصدور القانون رقم 251/2014 المتعلق بتعيين محامين عامين متفرغين وقضاة تحقيق في الشؤون البيئية في ستة محافظات هي بيروت وجبل لبنان والشمال والجنوب والبقاع والنبطية.

كما صدر المرسوم 3989/2016 لإنشاء ضابطة بيئية حدد عدد أعضائها ونظم عملها، وقد أصدر وزير العدل القرار الرقم 330 عام 2015 لتعيين خبراء في هذا المجال، كما وقع وزير البيئة مع رئيس مجلس القضاء الأعلى مذكرة تفاهم لتطبيق هذه القوانين، لكن المشكلة ظهرت نتيجة الاهمال في ملاحقة الجرائم البيئية، وفي عدم تطبيق القوانين النافذة، وفي عدم الجدية في ملاحقة الفاعلين، كذلك الحال في إهمال وزارة البيئة منع المخالفات ومكافحة الجرائم البيئية.

إن المسؤولية فيما حصل ويحصل لا تتعلق بشخص بالذات، بل إنها مشتركة بين وزارة البيئة والسلطات القضائية في حماية البيئة وملاحقة من قطع أشجار قصر العدل في بيروت، ويتوجب نتيجة لذلك وكي لا تتكرر هذه الحادثة المؤسفة تجاه البيئة وتجاه هيبة ورمزية قصر العدل وتجاه النقيب وأعضاء مجلس النقابة وجميع المحامين والقضاة أن يقدم مجرمو البيئة هؤلاء للعدالة في أقرب وقت ممكن كي يكونوا عبرة لمن لا يعتبر.


* المستشار القانوني لموقع لبنان الكبير

شارك المقال