البائع المتجول… من حالٍ الى حال

جنى غلاييني

لم يسلموا… حتى من فاق تعبهم الضعفين في البحث عن رزقهم لم يسلموا، فبعد أن ابتلعت الأزمة جهد المواطن اللبناني الميسور الحال والذي لطالما سعى الى عيش كريم، ثم أنهكت مواطن الطبقة الوسطى، جاء دور بائع العربة المتجوّل المعتاد على ربحه اليومي الضئيل ليدفع ثمن ظلم حكّامه الذين لم يلتفتوا يوماً إليه!

في حضن الوطن، اعتاد أبو سمرا (57 سنة) الأب لثلاثة أولاد، أن يجول بعربة الخضار من شارعٍ الى آخر ليتهافت الزبائن على عربته لشراء ما توفّر من خيرات الله، وبعد أن تكون العربة أفرغت من الخضار قبل حلول المساء، يعود الى بيته حاملاً ما استطاع الحصول عليه لعائلته.

ومن حالٍ الى حال، بات أبو سمرا اليوم يتنقّل في شوارع بيروت باحثاً عن الزبائن “القادرين” على شراء ولو القليل من خضاره. “حالتي المعيشية من سيء الى أسوأ، أصبحت الخضار التي كانت تصرف في يوم واحد تبقى حتّى اليوم الثاني، وفي حال فسد بعضها أجبر على تلفها على الرغم من خسارتي لها، إذ أقوم بشراء البضائع التي أحتاجها وأضيف الى سعرها الربح القليل”، هذا ما عبّر عنه أبو سمرا لـ”لبنان الكبير”.

ويتابع: “كنت أخرج بعربتي بمجرّد حلول الصباح وأعود قبل العصر، أصبحت أتجوّل حتى الساعة 12 مساء لكي لا أعود الى المنزل مكسور الظهر أمام أولادي الذين ينتظرون لقمةً تشبع بطونهم”.

ومع التفاقم المستمر للأزمة الاقتصادية وارتفاع الدولار، والغلاء الفاحش الذي يطال كل المواد الغذائية وغيرها، فقد شباب لبنان الأمل بوظيفة تليق بشهادتهم، وباتوا يبحثون عن أي مهنة تيسّر أمورهم وتجعلهم بعيدين عن فكرة الانتحار!

يقوم زياد.ت (24 سنة) والمعيل لوالدته، بجرّ عربة كعك في النهار منادياً بصوتٍ مرهقٍ على مدى الكورنيش البحري في الروشة بـ”كعك، كعك” لعلّ من مجيب! ويقول زياد بأسف شديد: “في الصباح أبيع الكعك، وفي المساء أعمل نادلاً في أحد مقاهي بيروت، النوم لا يدخل عيني والتعب لا يفارقني لكنّني صابرٌ على ما أمرّ به، وكل ما أفعله لأجل والدتي التي تحتاج الى أدوية شهرية أصبح سعرها يفوق حملي. ولهذا السبب استأجرت عربة صغيرة بعجلتين لأبيع الكعك على رصيف الكورنيش وأبدأ عند حلول الفجر ولا أعود قبل أن أبيع الكعك كله”. ويضيف: “أحياناً أشعر بالاستسلام لكنني أقاوم وأبعد كل البعد عني فكرة الانتحار التي تجول في أدمغة شباب لا تعرف الصبر والمقاومة، فأنا على يقين أنّ نهاية الصبر فرج”.

وفي مكانٍ ليس ببعيد، تقف عربة الفول وعرانيس الذرة على رصيف المنارة تنتظر من أحد المارّة أن يلتفت صوبها، وبجانبها صاحبها المتكئ عليها لا حيلة له إلا الصمود في البرد القارس، وكأنه ينتظر من أحدهم أن يقدّم له الراحة وجائزة ماليّة تجعله يعود راكضاً الى بيته الدافئ. إنه أبو محمد (70 سنة) وأب لفتاتين، يقول: “أعاني بشدّة، فبعدما كان الرزق يأتي من دون حساب أصبحت أعجز عن تأمين كيس أرز للطبخ، وهذه أيام لم أشهدها من قبل، شهدت على حروب ودمار لكني لم أشهد على الجوع وفقدان لقمة العيش والإذلال، وأنا في هذا العمر ما بيدي إلّا هذه العربة التي لا يقف عندها في اليوم إلّا زبائن قلائل، لكنّهم على حق فبعدما كنت أبيع صحن الفول بألف ليرة أصبح الآن لا يقل عن 20 ألفا، وهذا ليس في أنني أرغب بذلك، بل سعره يوضع وفقاً للمصاريف التي أدفعها من غاز وفول وصحون بلاستيك الذي لم يكن لسعرها أي قيمة، ناهيك عن عرنوس الذرة والذي أصبح سعره يتخطّى الـ40 ألفاً”. ويستطرد أبو محمد: “إذا بقيت الحال على ما هي عليه سأضطر الى بيع العربة والى البحث عن أي عمل أكون قادرا من خلاله على تأمين المال الذي يجعلني أنا وزوجتي وبناتي نعيش بعيداً عن الجوع والعوز”.

وطن الفقر والتعتير، وطن لا يحترم شيخوخة الكبير ولا طموحات الصغير. يبقى المواطن اللبناني ينتظر بصيصاً من الأمل في بلد لا يعرف قيمة شعبه، بل يعرف الإذلال وتحطيم آمال ومستقبل أجيالٍ ذنبهم فقط ان هويتهم لبنانية.

شارك المقال