انه الهلاك ولا سبيل الى النجاة

حسين زياد منصور

صحيح أن السنوات الثلاث الأخيرة كانت صعبة على اللبنانيين جميعاً، فالتظاهرات التي انطلقت في تشرين الأول من العام ٢٠١٩، وغياب الاستقرار الأمني الى جانب الأزمة الاقتصادية التي تفجرت بالتوازي مع جائحة كوفيد-١٩، ثم انفجار ٤ آب الذي هز لبنان ودمر أجزاء واسعة من العاصمة بيروت والضحايا الذين سقطوا فيه، كل ذلك شكل ضغطاً نفسياً عليهم، لكن المفارقة أن اللبنانيين وخاصة البالغون منهم كانوا يعانون من الاضطرابات النفسية منذ ما قبل الأزمة الحالية، والمقصود بهم هنا “جيل الحرب” أولئك الذين تعرضوا للصدمات خلال تلك الفترة.

الضغوط النفسية التي أفرزتها وضاعفتها الأزمات التي يعيشها اللبنانيون اليوم، الى جانب الاذلال الذي يتعرضون له من الوقوف في طوابير محطات الوقود الى طوابير الخبز مروراً بأزمة الدواء والمستشفيات الى جانب العوائق والمشكلات الكثيرة، والاغلاق الذي شهدته البلاد بسبب إجراءات مكافحة فيروس كورونا، دفعت بالكثيرين ممن يعانون مشكلات مختلفة الى التفكير في الانتحار أو الإقدام عليه ظناً منهم أنه الوسيلة الأسهل والأفضل للهروب مما يجري.

لم يعد اللبنانيون يستغربون قصص الانتحار التي يسمعونها ويعيشونها بين الحين والآخر، بعدما أصبحت منتشرة في المجتمع، اذ لا يكاد يمر أسبوع من دون تسجيل احدى الحالات اما عبر الشنق أو تناول السم أو إطلاق الرصاص.

لم يكن وقع الأزمة الاقتصادية ومضاعفات كورونا على الاقتصاد المحلي والعالمي هيناً، فالخوف والقلق لدى الكثيرين من خسارة وظيفتهم أو مسكنهم ساهما في انتشار الاضطرابات الصحية العقلية بين اللبنانيين.

في العام ٢٠٠٦، أشارت دراسة شاملة أجريت حول انتشار الاضطرابات المختلفة في لبنان، الى أن القلق والرهاب والاكتئاب هي الأكثر شيوعاً بين اللبنانيين، وسجل ١٦،٧ في المئة من معاناة السكان باضطرابات القلق، اما بالنسبة الى الاضطرابات المزاجية فشكلت ١٢،٦ بالمئة، والأفكار الانتحارية ٤،٣ بالمئة.

راني (رفض ذكر اسمه الحقيقي) أحد الناجين من محاولة انتحار، كان يعمل موظفاً إدارياً في أحد محال الألبسة الكبرى، وافتتح الى جانب عمله هذا، محلاً لبيع العصير والبوظة.

يقول: “عندما افتتحت المحل، كان العمل مزدهراً جداً وقد أحببته وسعيت الى تطويره يومياً، من توسعة الى زيادة في أعداد الموظفين، والترويج له عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ودفعت الكثير من الأموال في سبيل تطويره، وضج المكان بالزبائن الذين كانوا يأتون اليه من كل حدب وصوب، خاصة خلال فترة الأعياد حيث لم يكن بالامكان وصف العجقة التي تحصل”.

ويضيف: “في العام ٢٠١٩، قبل تظاهرات تشرين لم أشعر بأن الوضع خطر جداً على الرغم من التراجع في المبيع، حتى حل شهر تشرين، وما تبعه من فلتان أمني وأزمة اقتصادية ثم انتشار فيروس كورونا. خلال فترة الاغلاق تحطمت آمالي وطموحاتي وأهدافي تدريجاً، وعانت الشركة التي أعمل لديها من أزمة اقتصادية ومالية، كانت نتيجتها في بادئ الأمر عمليات تقشف، لتستغني بعدها عن خدماتي مع عدد من الموظفين بسبب عدم القدرة على دفع رواتبنا”.

ويتابع: “حاولت الاتكال على محلي الذي وضعت في سبيل تطويره الكثير مما أملك من مال، لكن لعبة الدولار وعدم استقرار الأسعار دفعاني الى الوقوع في مشكلات مالية عدة كان أبرزها جودة البضاعة وتأمين معاشات الموظفين، فكانت البداية لانهيار المؤسسة التي بنيتها. خسرت عدداً كبيراً من زبائني بسبب انهيار القدرة الشرائية للناس فضلاً عن عدم قدرتي على تأمين أجور العمال، والأهم من ذلك فشلي في تحصيل ما تبقى من أموالي من المصرف. هنا أقفلت محلي واعتكفت في منزلي لأشهر تحت أنظار زوجتي وأبنائي الذين لم يتمكنوا من تقديم المساعدة لي. سيطر اليأس والاكتئاب علي وراودتني أفكار الانتحار بشتى الطرق وسيطرت علي، لكن محاولتي الانتحار عن طريق الشنق باءت بالفشل، اذ لم أتمكن من تعليق الحبل بالصورة الصحيحة، فانفكت العقدة ووقعت، وتجمع أفراد أسرتي من حولي، وعندما نظرت الى عيونهم عدلت عن فكرة الانتحار”.

تشير دراسة نشرتها “الدولية للمعلومات” الى أن حالات الانتحار تراجعت بنسبة ٣٨،٥٪، خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الحالي. وكانت قد نشرت في نهاية العام الماضي استناداً إلى قوى الأمن الداخلي دراسة تتحدث عن عدد حالات الانتحار في السنوات الماضية، وجاءت على الشكل التالي:

في العام ٢٠١٢: ١٠٨ حالات، عام ٢٠١٣: ١١١ حالة، عام ٢٠١٤: ١٤٤ حالة، عام ٢٠١٥: ١٣٨ حالة، عام ٢٠١٦: ١٢٨ حالة، عام ٢٠١٧: ١٤٣ حالة، عام ٢٠١٨: ١٥٥ حالة، عام ٢٠١٩: ١٧٢ حالة، عام ٢٠٢٠: ١٥٠ حالة، عام ٢٠٢١: ١١٩ حالة.

الاختصاصية في علم النفس بدر شهيب تتحدث عن الأسباب التي تؤدي الى الانتحار، وتقول: “الانتحار ليس ظاهرة جديدة، وتتعدد الأسباب التي تدفع بالشخص الى التفكير فيه، وغالبيتها لها خلفيات نفسية، لكن انتشاره حالياً يعود الى المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تشكل ضغطاً كبيراً على معظم اللبنانيين، نتيجة المعاناة النفسية بسبب هذه الظروف اضافة الى كورونا وهذا ما يؤدي الى اضطرابات تشمل الاكتئاب والقلق والضغط النفسي”.

وتوضح أن “هذا الضغط الناتج عن الأزمة يدفع البعض الى التفكير بأنه غير قادر على تأمين بعض مستلزمات المعيشة الضرورية من مأكل ومشرب ودواء، فعلى سبيل المثال عندما لا يتمكن الأب من تأمين ما يطلبه أبناؤه منه سيشعر بالضعف والعجز وقلة الحيلة. إذاً في الوقت الحالي، المشكلات الاقتصادية تعد السبب الأساس للانتحار”.

وتشير الى أن “معدل الانتحار في لبنان ارتفع خلال العام ٢٠١٩ إثر الأزمة الاقتصادية التي زادت أعداد العاطلين عن العمل، وانتشار فيروس كورونا الذي كان له أثر نفسي كبير على العديد من الأشخاص”.

وعن دور الاعلام، ترى شهيب أن وسائل الاعلام ومواقع التواصل “لعبت دوراً في تعميم أفكار الانتحار إثر عرض هذه الحالات ونشرها”، لافتة الى أن “الشباب اللبناني استناداً الى الإحصاءات هو الفئة الأكثر عرضة للانتحار”.

شارك المقال