بين الواقع والخطط… ظاهرة التشرد تتمدد

حسين زياد منصور

لم تكن ظاهرة التشرد يوماً، حكراً على المجتمعات الفقيرة أو النامية، اذ ليست مرتبطة بمجتمع معين، بل هي ظاهرة عالمية، نجدها في أحياء باريس الممتزجة بالحضارة والحداثة، وفي أزقة مدينة الضباب لندن، وشوارع واشنطن الشهيرة. إذاً، التشرد ظاهرة نامية في كل دول العالم، ويتخطى تعريف المتشرد من فقد مسكنه، ليشمل كل شخص مهدد بخسارته لأسباب مختلفة.

في لبنان، وخاصة بعد الأزمة عام ٢٠١٩، تزايدت أعداد المشردين، ويعود ذلك الى عوامل عدة منها أساسية وأخرى ظرفية، فالعنف المنزلي والتفكك الأسري لهما دور في ذلك، الى جانب الفقر والبطالة والإدمان.

في كل المدن اللبنانية، نلتقي يومياً بعشرات بل مئات المشردين والمتسولين، وفي بيروت عند تقاطع جسر الكولا نقطة التقاء القادمين والخارجين من العاصمة، نراهم ينتشرون على جوانب الطريق، في حين اتخذوا من الجسر سقفاً يأويهم من حرارة الشمس وغزارة الأمطار بعدما افترشوا الأرض للجلوس والنوم، وقد رسم كل واحد منهم حدود تموضعه.

قصص عديدة تسمعها من هؤلاء، تلك التي هربت من منزل زوجها والتجأت الى الشارع خوفاً من تعنيفه لها، وذلك الصبي المتسول اتخذ من زاوية تحت الجسر مكاناً له بعد أن ترك منزل زوج أمه، ومنهم من يرفض أن يكون عبئاً على أولاده. لكل واحد منهم حكاية ورواية عما أوصلهم الى هذا الوضع.

أبو محمد هكذا عرّف عن نفسه، وهو ليس اسمه الحقيقي، خمسيني، تظنه في العقد السابع، يرفض تسميته بالمتشرد بل يفضل أن يسمّي نفسه لاجئاً في أرض الوطن.

روى قصته قائلاً: “كنت أمتلك غرفة صغيرة في البقاع، وأعتاش من خلال المساعدات التي أحصل عليها، حتى بدأت تقل يوماً بعد يوم. عانيت من مشكلة اقتصادية بسبب تراكم الديون، ومصاريف المأكل والمشرب والدخان، اذ لم أكن أقوم بأي عمل، فاضطررت الى بيع الغرفة”.

أضاف: “لست متزوجاً وأعيش وحيداً، لذلك لا مسؤوليات لدي، نمت لدى أحد اقاربي ليلتين قبل المجيء الى بيروت والبحث عن أي مكان ألتجأ اليه، وإن كان قارعة الطريق كي لا أكون عبئاً على أحد”.

وتابع: “عند وصولي الى بيروت، تنقلت من شارع الى آخر، تارة أنام على المقاعد في كورنيش عين المريسة، وتارة أخرى أفترش بعض الكراتين تحت جسر الكولا وأحياناً في صبرا. أتسول في النهار من المارة، وبالمال الذي أجنيه أتمكن من تأمين طعامي. رفضت المساعدة من جمعيات خيرية عدة، فأنا مرتاح بطريقة العيش هذه”.

وأكد أن “الأزمة التي يمر بها لبنان ليست سبب حالتي هذه، فأنا هكذا منذ ما يقارب الـ ٥ سنوات أي قبل الأزمة”.

وفي مقاربة لظاهرتي التشرد والتسول، أشار مصدر موثوق في وزارة الشؤون الاجتماعية لـ “لبنان الكبير” الى عدم توافر أعداد دقيقة عن المشردين والمتسولين في الوقت الحالي، على اعتبار هؤلاء في حالة تنقل دائم، موضحاً أن “آخر إحصاء كان في العام ٢٠١٦ ودل على وجود ١٥ ألف طفل في الشارع، وبعد ذلك لم يتمكنوا من القيام بإحصاء جديد، ولكن يمكن الاستنتاج إن كان العدد في ارتفاع أو انخفاض، نسبة الى ملاحظة الظاهرة، فعندما تكون الحالة غير طبيعية هذا يدل على ازدياد في الأعداد، وطبعاً الظاهرة أي ما هو واضح للعيان، يعتمد عليها علماء الاجتماع”.

وأكد المصدر أن “الأعداد ارتفعت، على الصعيد اللبناني، في التشرد والتسول الى جانب ازدياد عمالة الأطفال، وهو ما لم يكن موجوداً في السابق بهذا الحجم وأصبح يتحول الى ظاهرة. اليوم، نجد الكثير من التسرب المدرسي في صفوق الأطفال اللبنانيين الذين يشاركون في العمالة، خاصة في مناطق الشمال”.

وعن خطة الوزارة، قال: “منذ سنتين أطلقنا خطة (سحب أطفال الشوارع الى المناطق الآمنة) بمشاركة المجلس العربي للطفولة والتنمية، وبالتعاون مع الجمعيات غير الحكومية الموجودة على الأراضي اللبنانية والجمعيات المحلية والأهلية. لدى اليونيسيف مركز في حي اللجا، وللوزارة مركز في الحمرا عبارة عن مدرسة تابعة لوزارة التربية، سيتم استقطاب الأطفال المشردين في الشوارع الى جانب المتسولين من قبل قوى الأمن والمرشدين الاجتماعيين والعاملين الى جانب الجمعيات غير الحكومية، بدوام ينطلق من الساعة التاسعة صباحاً حتى الثانية بعد الظهر، وسيقدم الدعم النفسي وإعادة الدمج في المجتمع وتأهيل وتمكين من تخطوا الـ ١٢ عاماً كي يكتسبوا مهناً تمكنهم من إيجاد فرص عمل. كان من المفترض أن ينطلق المشروع في حزيران الفائت، لكن اطلاقه تأجل بسبب الاضرابات والتأخيرات اللوجيستية من بعض الشركاء”.

وعن الخطط المستقبلية لأطفال الشوارع، أوضح المصدر أن “غالبية الأطفال الموجودين هي من جنسيات متنوعة ومعظمهم من السوريين. في الوقت الحالي نحن نعمل على المساعدات المشروطة، ونفضل عودتهم الى بلادهم واندماجهم في مجتمعاتهم وحياتهم الطبيعية، لأن الفرد لا يمكن أن يكون سعيداً بكونه لاجئاً أو نازحاً. وقبل حصول اتفاق سياسي لا يمكن لهذه الخطوة أن تطبق، لذلك نعمل على تمكين هذه الأسر من خلال الدعم الذي تقدمه الجمعيات والمنظمات الدولية والهيئة العليا لشؤون اللاجئين العاملين على الأراضي اللبنانية، الى جانب الدعم المقدم للمدارس كي تستقبل الطلاب السوريين وخاصة المدارس الرسمية التي تفتح أبوابها بعد الظهر”.

ورأى أن “من الصعب جداً وضع هؤلاء الأطفال في مؤسسات، أولاً هم ليسوا لبنانيين. ثانياً لبنان يفتقر الى مثل هذه المؤسسات لاستيعاب اللبنانيين، فكيف بوجود أكثر من مليوني لاجئ ونازح على أراضيه؟. ثالثاً يعتبرون ذلك ثقافة حياة، على اعتبار أن تسول الأطفال ليس عيباً فهو يساعد في المدخول الاقتصادي للعائلة”.

وشدد المصدر على “وجوب العمل على تصحيح المفاهيم والمعتقدات الخاطئة لدى النازحين، وإقناع هذه الاسر بأن مكان الأولاد على مقاعد الدراسة لا في الشوارع وأنهم لا يجب أن يكونوا هم المسؤولين عن تأمين المصروف للمنزل، فالأب هو رب الأسرة لا الولد، إضافة الى تأمين الحاجات الضرورية لهؤلاء النازحين علها تقلل الأعداد الى جانب التعاون والتنسيق مع القوى الأمنية بالنسبة الى مشغلي الأطفال بطرق غير شرعية في المخدرات والدعارة للتخفيف من حدتها وتأثيرها على المجتمع اللبناني”.

أسباب كثيرة تدفع الأفراد الى التسول والتشرد خاصة في هذه الظروف الصعبة، وبين تطبيق الخطط والتوجهات، التشرد باق ويتمدد، ونشهد تحول الكثير من المتشردين الى متسولين، ويجمعون بين الظاهرتين.

شارك المقال